DELMON POST LOGO

الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» 1-7

حدث «الربيع العربي» وتطوراته اللاحقة لم يكن عفويا تماما بل أزمة حكم وأزمة سياسات

الازمة إشكالية الدولة العربية التي كرسّت البُنى العصبية التقليدية في نظام الحكم وإشكالية الشرعية في النظم السياسية وإشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع  

أزمات الحكم التاريخية للأنظمة العربية الحاكمة اربع : أزمة الهوية والانتماء وأزمة المشاركة السياسية وأزمة التوزيع الثروة وأزمة الشرعية

" إن أهم ما تميزت به الحركات الشعبية في حدث «الربيع العربي» هو أنها نابعة من المجتمع المدني، وأن قادتها هم شباب الطبقة الوسطى المُتعلمين الذين استغلوا التقنيات الحديثة للسيطرة على الفضاء العام، ولم يخضعوا لتوجيهات الأحزاب والمنظمات السياسية ، وكانوا مُلتزمين بمطالب سلمية ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية عامة.  

مع أن فريقا من الباحثين يرى أن الحركات الاجتماعية المُطالبة بالتغيير في فترة «الربيع العربي» (2010 – 2019) قد نشأت بصورة عفوية وارتجالية نظرا لغياب قيادة سياسية موحدة ذات برنامج واستراتيجية وأفق واضح، ورؤية أيديولوجية مُنسجمة لدى قادة هذه الحركات ، إلاّ أنه في المقابل، فإن فريقا ثانيا من الباحثين يرى أن تزامن انطلاق حركات «الربيع العربي» لم يكن من قبيل المصادفات التاريخية؛ فلا يمكن لأحداث بهذا الحجم أن تجد مكانها في مسار التاريخ نتيجة للصدفة، بل أنها نتائج منطقية وطبيعية لتطورات تاريخية سابقة وهناك فريق ثالث يرى أن حدث «الربيع العربي» كان مُخططا له منذ عام 2005 من قبل المنظمات الأميركية غير الحكومية، وبتمويل حكومي أميركي، لتحريك الرأي العام في أقطار «الربيع العربي» لإنجاز التغيير الديموقراطي، وتشجيع الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط؛ وبما يخدم السياسة والمصالح الأميركية والغربية في المنطقة . ".

هذا ما استنتجته الاكاديمية الدكتور شرف المزعل في دراستها التحليلة حول ( الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» ) (2010 – 2019) ، وقالت في بحثها ، ان هذه الدراسة تهدف إلى تقصِّي الجذور التاريخية العميقة للعوامل المؤثرة في سيرورة التحول الديموقراطي في أقطار «الربيع العربي» (2010 – 2019)، وعلاقتها ببعض المفاهيم المركزية، مثل «الموروث التاريخي»، ممثلا في ترسّخ قيم الاستيلاء بالغلبة والعنف والاستبداد لدى أنظمة الحكم العربية؛ و «التأخر التاريخي»، ويتمثل في ضعف النخب التي لم تستطع أن تنتج فكرا تاريخيا تحارب به الثقافة المناهضة للتقدم والحداثة؛ و «الإنسداد التاريخي»، ويتجلى في العجز عن قراءة التراث العربي الإسلامي بصورة مغايرة للثوابت المطلقة والحقائق الثابتة للأيديولوجيات العربية.

وقد تم اتباع المنهج التاريخي، من خلال تحليل «الربيع العربي» باعتباره حدثا تاريخيا جديرا بالدراسة؛ نظرا لوجود علاقة بين هذا الحدث وبعض الإشكاليات التاريخية لتطور أنظمة الحكم والمجتمعات العربية، حيث يتم تفكيك هذه الإشكاليات إلى مفاهيم عامة، ترتبط بعوامل تؤثر في التحول الديموقراطي لبلدان «الربيع العربي». وعلى هذا الأساس، تم تحليل الأسباب الداخلية والخارجية الكامنة خلف حدث «الربيع العربي» ونتائجها على خلفية هذه المفاهيم المركزية الثلاثة. وقد أوضحت نتائج البحث أن التمسك بالموروث التاريخي والسياسي والأيديولوجي والثقافي كمرجعية ثابتة في ممارسة الحكم في الدولة العربية، وتكريس البُنى القبلية التقليدية بنظام الحكم، وعدم تمكن أنظمة الحكم العربية من حل قضية فلسطين وتحرير بلدانها من الفقر والجهل والتخلف، وكذلك عجز النخب العربية المثقفة عن بلورة تأويل عقلاني تنويري جديد للتراث العربي الإسلامي، كل ذلك قد ترك أثرا ملموسا في عرقلة بناء مجتمعات النهضة والتقدم والحداثة في البلدان العربية، وإعاقة التحولات الديموقراطية في أقطار «الربيع العربي». وتوصي الدراسة بالعمل على تأصيل الفكر التاريخي الذي يدافع عن قيم الحداثة والتقدم كخطوة هامة لتجاوز التأخر التاريخي الذي يعيشه العرب، وتحقيق إرادة سياسية وفكرية صلبة تنشد التقدم والنهضة.

تقول : اندلعت الانتفاضة الشعبية في تونس بعد إقدام المواطن محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على قيام أحد أفراد الشرطة المحلية بإهانته، وكان ذلك في 17 ديسمبر 2010. وعلى أثر هذا الحدث التاريخي، انطلقت المظاهرات الغاضبة ولم تتوقف حتى تمت الإطاحة بحكم الرئيس زين العابدين بن علي، ومن تونس انتقلت شرارة الأحداث لتؤجج الشارع المصري ضد حكم الرئيس محمد حسني مبارك، حيث بدأت المطالبات الشعبية بالإصلاح، ثم سرعان ما تحوّلت إلى المطالبة برحيل الرئيس مبارك؛ فتحققت للمتظاهرين مطالبهم، وكان ذلك في 25 يناير 2011، وبعد ذلك امتدّت حمى المطالبات بالديمقراطية والتغيير إلى البلدان العربية الأخرى.  

لقد أُطلق على ما حصل في البلدان العربية من هبّات وحركات جماهيرية في تلك الفترة مصطلح «الربيع العربي»، وحيث أن هذا المصطلح أصبح لاحقا موضع جدل بين الباحثين، فقد تم وضعه في هذه الدراسة بين هلاليّن. غير أن النجاح لم يكن حليفا للانتفاضات في جميع الدول العربية التي حصلت فيها؛ فبينما نجحت التحركات الجماهيرية في تغيير أنظمة الحكم في تونس ومصر في الفترة من 2010 - 2011، وبعد مرور عقد زمني تقريبا، وذلك في كل من الجزائر (يناير 2019) والسودان (أبريل 2019)، فيما أُطلق عليه بعض الباحثين «موجة الربيع العربي الثانية» ؛ لم يكن الأمر كذلك في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها، فقد تحوّلت موجات الاحتجاجات في تلك البلدان إلى صراعات دموية متواصلة على السلطة حتى هذه اللحظة.  

ترى الباحثة أن حدث «الربيع العربي» قد برز بفعل تطور تاريخي طويل زمنيا؛ ولذا يمكن مقاربته كظاهرة تاريخية مرتبطة بالزمان والمكان، وبيان خصائص البيئة السياسية والثقافية التي ظهر فيها، ثم دراسة أهم الفاعلين التاريخيين الذين كانوا وراء ذلك الحدث التاريخي، وفقا لتعبير أركون، وذلك ضمن السياق التاريخي الذي وُجد وتكون فيه الحدث، حيث لا يمكن فهمه خارج هذا السياق، وباعتباره محصلة لتفاعل العوامل التي أنتجته .

إن حدث «الربيع العربي» وتطوراته اللاحقة لم يكن عفويا تماما؛ فهو أزمة حكم، وأزمة سياسات، تعبر عن ثلاث إشكاليّات تاريخية أساسية، وهي إشكالية الدولة العربية التي كرسّت البُنى العصبية التقليدية في نظام الحكم بحيث يعبر النظام السياسي عن مصالح جماعات ضيقة حاكمة تحقق مصالحها الخاصة؛ وإشكالية الشرعية في النظم السياسية العربية؛ أي قدرة النظام السياسي العربي على توليد الاعتقاد بأن مؤسساته الحكومية هي الأكثر ملائمة للمجتمع؛ وإشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع.

وحيث أن حل هذه الإشكاليّات يتطلب معالجة مفاهيم تاريخية محورية، كمفهوم «الموروث التاريخي»، و«التأخر التاريخي» و«الإنسداد التاريخي»، فإن المقاربة التاريخية لظاهرة «الربيع العربي» تتطلب بحث الإشكاليات المذكورة في إطار علاقتها بهذه المفاهيم.

كما أن سيرورة التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» بحاجة أيضا إلى بحث متعمق؛ ذلك أنه قد تم إرجاء الديموقراطية في المنطقة العربية لاعتبارات تتعلق بالنضج السياسي الذي هو أساس الديموقراطية، وتحت ذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية عبر توفير الحاجات الأساسية للمواطنين قبل الحقوق السياسية .

اذ يعتبر ما حدث في العالم العربي بعد عام 2011 بداية لتغيير تاريخي شامل يحتاج إلى عقود وليس إلى أعوام، وقد تضافرت مجموعة من الدوافع والأسباب التاريخية التي قادت إلى الاضطرابات في دول «الربيع العربي» (2010 – 2019)، وأبرزها هو أزمات الحكم التاريخية للأنظمة الحاكمة هناك، وهي: أزمة الهوية والانتماء (عدم وجود هوية ثقافية موحدة تشجع مفهوم الوحدة الوطنية)، وأزمة المشاركة (عدم مشاركة المواطنين في عملية صنع القرار)، وأزمة التوزيع الثروة (عجز النظام عن توزيع الموارد وأعباء التنمية)، وأزمة الشرعية؛ وتتضمن غياب الشرعية للدولة ككيان سياسي وقانوني، وعجزها عن تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

غير أن تعثر عملية الانتقال الديموقراطي بدول «الربيع العربي»، وعدم تحقق جميع أهداف الحركات الشعبية، قد حدث بنتيجة تفاعل ثلاثة عوامل تاريخية، تتمثل في الموروث التاريخي؛ أي ترسّخ الاستبداد كمرجعية ثابتة في ممارسة الحكم، والتأخر التاريخي؛ ويتجلى في تخلّف وعي الجماهير عن الواقع الاجتماعي، والانسداد التاريخي؛ حيث «يتمثل الانسداد الداخلي في عجز أنظمة الحكم عن تحرير الدول العربية من الفقر والجهل والتخلف الحضاري؛ فيما يتجلى الانسداد الخارجي في العجز عن بلورة تأويل عقلاني حداثي جديد للتراث العربي الإسلامي».

على هذا الأساس، تهدف هذه الدراسة إلى تقصِّي الجذور التاريخية العميقة للعوامل المؤثرة في سيرورة التحول الديموقراطي في أقطار «الربيع العربي» (2010 – 2019)، وعلاقتها بمفاهيم هامة سبق ذكرها، وهي: «الموروث التاريخي»، و«التأخر التاريخي» ، و«الإنسداد التاريخي».

وتُعتبر هذه الدراسة، في حدود علم الباحثة، المحاولة الأولى لتحليل الحدث التاريخي «الربيع العربي»، والذي وقع في العقد الثاني للقرن العشرين (2010 – 2019) من منظور الإشكاليات والمفاهيم التاريخية، من خلال توظيف تلك المفاهيم لفهم السياق التاريخي لتلك الأحداث، وتحليل الأوضاع السياسية والاجتماعية في أقطار «الربيع العربي» برؤية تاريخية موضوعية جديدة وناقدة.