DELMON POST LOGO

المزعل : في عام 1932 انطلقت قاطرة التنظيمات النقابية على يد عمَّال النفط - 3

بقلم : د. شرف محمد علي المزعل

«إنَّ الأفكار والمفاهيم والرؤى الإصلاحية التي طرحتها مجلة (صوت البحرين) على صفحاتها شكَّلت نبراسًا للأجيال اللاحقة من الشباب للكفاح من أجل استقلال البحرين وعروبتها، وألهمت نظام الحكم بضرورة التغيير والتوجُّه نحو الإصلاح السياسي الشامل وحتميَّته؛ ممَّا مهَّد للعهد الإصلاحي الشامل الذي استهلَّه صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظَّم في العام 1999م، والذي أهَّل البلاد لتنضمَّ إلى مصاف الممالك الدستورية ومنح العملية السياسية مضمونًا جديدًا ضمن مشروع وطني جامع تلتف حوله جميع القوى والنُخب السياسية والدولة والمجتمع».

بهذه العبارة اختتمت الدكتورة شرف محمدعلي المزعل بحثها المعنون بـ «الخطاب الإصلاحي للتنمية في البحرين من خلال مجلة صوت البحرين (1950-1954)»، الذي بحثت فيه القواعد التي «أرسى عليها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظَّم نظامه العام أضحى عبره الإصلاح تغييرًا جذريًا في الخطاب الإصلاحي السياسي»، وفيما يلي نتابع الحلقة الثالثة للدراسة:

«لقد كانت ملامح خيوط مصادر الوعي الوطني والقومي في البحرين تتضح من خلال حقيقتين مهمتين؛ الأولى هي أن عثمان الحوراني آخر مديري مدرسة الهداية الخليفية كان في الأصل مناضلًا قوميًا عربيًا، أما الحقيقة الثانية فتتمثل في طبيعة العلاقة التراتبية بين عثمان الحوراني وزملائه المُعلمين السوريين والعراقيين عام 1929م، ومع زميلهم ساطع الحصري المرجع الفكري للحركات القومية العربية»، وتلفت: «لقد أدركت الإدارة البريطانية خطورة هؤلاء المعلِّمين على سياساتها ومصالحها في مُستعمراتها الخليجية، ولذلك أصدر مستشار الإدارة البريطانية بتاريخ 6 فبراير 1930م قرارًا بطرد المديرَين عثمان الحوراني وعمر الحوراني في اليوم.

ولاقى انتشار الأفكار القومية والوطنية في البحرين مقاومةً شديدةً من المُستعمِر البريطاني؛ ولذا أوصى المُعتمد بتصفية الحركة الوطنية تمهيدًا لعزل حاكم البحرين وتوابعها الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (1869- 1923)، وإحداث تغيير في شكل الحكومة بعد أن ظهرت أولى بوادر العثور على النفط في الجزيرة.

وعلى النقيض من توقَّعات المُستعمر البريطاني، فقد استمرَّ الوعي الثقافي - الذي شمل معظم مناطق البحرين - في نموِّه وامتداده، وكانت مظاهره واضحةً في المؤسَّسات الثقافية والأدبية التي نشأت مطلع القرن العشرين، وتمخَّض هذا النشاط الإصلاحي عن أربع مدارس أهلية، وأسفر أيضًا عن افتتاح مدرستين لأبناء الطائفة الشيعية في البحرين، وهي خطوة عبَّرت بجلاءٍ عن تلاحم أبناء الوطن الواحد، وتصدِّيهم لسياسة الإنجليز الطائفية التي كانت تسعى دائمًا إلى بث التفرقة بين أبناء الشعب من أجل السيادة. إنَّ هذا النشاط الحضاري الأهلي يدلُّ على وعي مجتمع البحرين في مطلع القرن العشرين.

لقد شهدت البحرين حركةً إصلاحيةً منذ العشرينيات في الأعوام 1921 و1923 و1938 قادها المُعلمون والطلبة والتجار مُطالبين بالإصلاحات ووقف التدخل الأجنبي، وقد اعتُبرت تلك الحركة بداية مرحلة الحركة الديمقراطية في البحرين، وقد نتج عن حراك عام 1923 عدة إصلاحات أدَّت إلى إرساء مفهوم الدولة الحديثة، أما عام 1938، فقد شهد أول حركة منظمة حقيقة قادتها شريحة جديدة على المجتمع البحريني هي عمال النفط الذين قدِموا بمطالب جديدة على المجتمع البحريني شملت تأسيس نقابات عمالية.

وخلال ثلاثينيات القرن العشرين كان للتطوّرات السياسية في الكويت ودبي التأثير المباشر على الوضع السياسي في البحرين، وذلك بسبب الترابط الوثيق بين أبناء الخليج العربي في جميع مجالات الحياة، كما كان للقوميين العرب والنقابات العمالية امتدادات سياسية ونقابية وشعبية واحدة منذ منتصف القرن العشرين، وحينما انتصرت الثورة المصرية في 23 يوليو 1952م توجَّهت لمنح الدعم لحركات التحرُّر العربية مؤكدةً أن قوَّة العرب في توحُّدهم وأنَّ هذه الوحدة هي مشروع سياسي لقيام دولة عربية كبرى، وهذا يتناقض مع مصالح الدول العظمى في المنطقة.

وإذا كانت فترة الشيخ عيسى الكبير تمثل بداية العهد المؤسَّسي في البحرين فإنَّ عهد ابنه الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة (1923- 1942) قد تزامن مع نشأة النظام الإداري الحديث منذ 1924م وتطوُّر التعليم النظامي الأهلي للبنات في البحرين (1929-1928) والتوقيع على امتيازات التنقيب عن النفط وبدء تدفقه عام 1932م كما شهدت البلاد تطوُّرًا لافتًا على المستويَين العمراني والصحي.

ومع اكتشاف النفط عام 1932م، أصبح النفط يمثل مصدر الدخل القومي الأول فتغيَّرت تركيبة طبقات السكان في المجتمع البحريني، وتشكَّلت الطبقة الوسطى في الأربعينيات من القرن العشرين. أما على صعيد التجارة، فقد كان المجلس العرفي الذي تم تشكيله عام 1920م النواة الأولى لنشأة غرفة تجارة البحرين، وكان الركيزة الأساسية لنمو الطبقة البرجوازية التي احتضنتها جمعية التجار العمومية عام 1939م.

وعلى صعيد الحركة السياسية في عهد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، كانت المطالب المرفوعة آنذاك تخصُّ مؤسسات الدولة، ويمثل هذا نمطًا جديدًا في الحراك السياسي؛ فقد ظهرت حركة مطلبية في الفترة 1924-1935م بسبب التناقض في النظام القضائي، واتسمت الاضطرابات التي حصلت في عام 1938م بوحدة شعبية شاملة بين طوائف المجتمع البحريني، وتمثلت مطالبهم في إنشاء مجلس للشورى وإصلاحات في القضاء والتعليم، وأن يكون للبحرينيين الأفضلية في العمل في الوظائف النفطية.

عهد الشيخ سلمان باكورة تمكين المرأة البحرينية

لقد ورث الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى الكبير حكم البحرين (1942-1961) بعد وفاة والده والبحرين قد وضعت حينها اللبنات الأساسية لتشكُّل الدولة الحديثة، ودخلت مرحلة التطوير المؤسّسي، ومن أبرز سماتها دخول المرأة البحرينية لسوق العمل بعد أن حظيت بفرصة التعليم، وبروزها في الحراك الاقتصادي، ومشاركتها أيضًا في الحراك الاجتماعي، ونشر الوعي في المجتمع البحريني، كما كان للمرأة مشاركة في الأحداث السياسية التي كانت تمرّ بها البلاد بدءًا بالمطالبة بالاستقلال من الحماية البريطانية في الفترة من (1880-1971).

وبفضل تنوُّع مصادر الدخل القومي من الصناعة حتى المصارف وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، شهدت البلاد نهضةً مرحليَّةً شملت قطاعي التعليم والصحة، ممَّا أثر في النمو السكاني وأسهم في زيادة كتلة عدد سكان البحرين وما لذلك من مردودٍ إيجابيٍ ساهم في نمو الوعي السياسي وبروز نخبة من الروَّاد المثقفين الذين أخذوا على عاتقهم نشر مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والاستقلال من القوى الأجنبية، ومن أبرزهم الشيخ محمد بن إبراهيم آل خليفة والشيخ محمد بن عيسى آل خليفة وعبدالله الزايد وحسن جواد الجشي ومحمد علي التاجر وإبراهيم العريُّض وعبدالرحمن المعاودة، وكانت منابرهم من الصحف والمجلات المحلية مواكبةً لحركة النهضة، وحاضنةً للتيارات السياسية المتحرِّكة بين الفينة والأخرى، وللفكر القومي العروبي في تلك المرحلة.

أما الحاضنة الأخرى للحراك السياسي بالإضافة إلى الصحف المحلية فقد كانت الأندية الثقافية والرياضية، كنادي العروبة الثقافي ونادي النجمة الرياضي اللذين كانا يلعبان دور الصالونات السياسية التي تُطرح فيها آخر الأخبار والمستجدات في الساحتين المحلية والعربية، وتتبلور فيها أهم المطالب الشعبية التي تنبري بها مختلف الفصائل الوطنية بين الفينة والأخرى في قائمة مطالب شعبية.

ويلاحظ في البحرين تزامن الحراك السياسي المحلِّي مع حركات الوعي والتنوير العربية والدخول في إطارات خارجية كالمدِّ القومي، وكل ما تم عرضه من مخاضات تاريخية مهدَّت لاستيعاب البحرينيين للآيديولوجيات العالمية والقومية ومنها الحركة القومية؛ إذ مرت الحركة المطلبية في البحرين عام 1937م بمطالب داخلية صِرفة تحدَّدت في إنشاء مجلس وطني والمطالبة بإصلاحات في مؤسسة النفط الذي اكتُشف في البحرين عام 1932م.

ومع انتشار التعليم واكتشاف النفط وظهور الأندية واتصال الشباب المُتعلِّم واختلاطه بالشعوب العربية في مصر والعراق وسوريا، توافرت تربة خاصة لتمدُّد التيار القومي، وكان للصحافة البحرينية في تلك الفترة دور كبير في إيقاظ المشاعر، وعرض وجهات النظر المؤيدة للقومية العربية، والمُنتقدة للسياسات الاستعمارية ولوجود الشركات النفطية الأجنبية، وكل ذلك يشير في المحصِّلة إلى بداياتٍ مبكِّرةٍ لنمو الوعي القومي في البحرين».