DELMON POST LOGO

المزعل: المصلحون الاجتماعيون أدركوا ضرورة رفع مستوى دخل محدودي الدخل لضمان العدالة للجميع (6)

بقلم : د. شرف محمد علي المزعل

«إنَّ الأفكار والمفاهيم والرؤى الإصلاحية التي طرحتها مجلة (صوت البحرين) على صفحاتها شكَّلت نبراسًا للأجيال اللاحقة من الشباب للكفاح من أجل استقلال البحرين، وعروبتها. وقد ألهمت نظام الحكم بضرورة التغيير والتوجُّه نحو الإصلاح السياسي الشامل وحتميَّته. ولكن هذا التغيير لم يتحقق بصورة فعلية إلَّا في نهاية القرن العشرين تقريبًا، وتزامن ذلك مع عهد عاهل البلاد المعظَّم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة (1999-) الذي أرسى قواعد المشروع الإصلاحي، ووضع البلاد في مصاف الممالك الدستورية؛ وبذلك منح العملية السياسية مضمونًا جديدًا، فلم يعد الإصلاح مجرَّد محاولات ترقيعية أو ديكور لتزيين صورة مملكة البحرين في العالم، بل أصبح تغييرًا جذريًا في الخطاب الإصلاحي السياسي».

بهذه العبارات اختتمت الدكتورة شرف محمد علي المزعل بحثها بعنوان "الخطاب الإصلاحي للتنمية  في البحرين من خلال مجلة صوت البحرين (1950-1954)، وفيما يلي نص البحث في الحلقة السادسة التي تأتي متابعةً للحلقة السابقة في تحليل الخطاب من حيث المحتوى:

ثانيًا: محتوى الخطاب الإصلاحي

في معرض توضيح آليَّات ووسائل الإصلاح المجتمعي، يناقش بن علي الفكرة بأن «المُصلح لا يمكن أن يواكبه النجاح إلَّا إذا ترفَّق في عرض الفكرة الإصلاحية التي يدعو إليها ولم يجابه بها الجمهور مُجابهةً يستثير بها حنقه»، مُنوهًا إلى أنَّ المُصلح الاجتماعي يسعى إلى «تغيير العادات والتقاليد والنظم المُتحكِّمة في مجاري الحياة في مجتمعه». ولأنَّ الأمة بحاجةٍ إلى من «يزلزل كيانها، وينتهز الفرص لإماطة اللثام بحذرٍ عن أوضاعها البالية وتقاليدها السقيمة»، فإن استجابة الشعب لهذه الدعوة «تتطلب رجالًا مُخلصين ثابتي العزائم، وقائدًا مقدامًا يأخذ بزمام الشعب وينقله في طفرةٍ فجائيةٍ إلى طورٍ جديدٍ من أطوار الحياة»، مُردِّدًا أصداء صيحة الفيلسوف فولتير، وصرخات ديدرو التي مهَّدت للثورة الفرنسية الكبرى. فما من نهضةٍ شاملةٍ حدثت في التاريخ إلاّ «وجدناها تمرُّ في طور الإرهاصات يليه طور الانقلاب، ثم يعقبهما الاستقرار».

لقد أدرك المُنادون بالإصلاح الاجتماعي في البحرين في منتصف القرن العشرين أن تحقيق العدالة الاجتماعية يجب أن يكون أساس إصلاحهم، وأن الخطوة الأولى لتحقيق هذه العدالة هي «رفع مستوى الطبقات الفقيرة، وصيانة حق كل فرد من أبناء الأمة»، وقد لمس هؤلاء المُصلحون اتجاهاتٍ جديدةً ترمي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، ومن بينها «مشروع تعميم المجانيَّة في المدارس الابتدائية، ومشروع مكافحة السلِّ والأمية».

ولأنَّ الفترة التاريخية قيد الدراسة (1950–1954) ترافقت في البحرين، كما سبق ذكره، مع بوادر خطوات «إصلاحية» في عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين وتوابعها، فقد انبرى كتاب مجلة «صوت البحرين» في عام 1951، أي بعد مرور عام على صدورها، لتوضيح وجهة نظرهم لمفهوم «الإصلاح» بأنه عملية بناء، وليس عملية ترميم وترقيع، فنحن نكون سلبيِّين حينما «نهدم القيم والأوضاع القائمة ثم لا نعطي بدلًا منها قيمًا وأوضاعًا جديدة، فذلك هو التقهقر والفوضى». أما بالنسبة لمتطلبات الإصلاح، فإن «سياسة الإنشاء والإصلاح تحتاج إلى مناهج شاملة ومدروسة، تتناول أوضاع الحياة المختلفة كمًا وكيفًا، وتستفيد من عبر التاريخ وتجارب الأمم واكتشافات العلم»، وكذلك إلى «فهم نافذ عميق لروح الأمة وتاريخها واتجاهاتها النفسية والعقلية»، مثلما يحتاج للكفاءات العلمية والإخلاص. أما عن جوهر الإصلاح، فإن الإصلاح الحقيقي «يجب أن يتجاوب مع عوامل تكوين الأمة: اللغة والتاريخ والثقافة والدين».

طلائع الحركة القومية العربية لم تكن مؤهلة لقيادة الأمَّة

وفي إطار تحديد مسوِّغات الإصلاح على المستوى القومي (العربي)، يشير ابن ثابت إلى أن حاسة النقد هي «حافز التطوُّر، وهي منشأ المرونة التي تتمتع بها الحياة»، وليس الخير في الواقع، والذي يتمثل في «الإقطاعية المسعورة الجاثمة على قلب البلاد العربية، أو في الأمراض المستوطنة، أو في البرامج التعليمية الاستعمارية، أو الأميَّة النكراء، أو في الطائفية الهدَّامة» التي تقسم العرب، وإنما الخير في «التطوُّر المُبدع لا في الواقع القائم».

وضمن ذلك السياق، تم تفسير الأحداث الثورية المُناوئة للاستعمار في الأقطار العربية في سوريا أو في العراق ومصر عام 1952 بأن تلك الحركات «اتخذت من النقمة المُتأججة في أوساط الشعب على أوضاعه الفاسدة مادةً أوليَّةً لدعم تلك الانقلابات»، بينما تمثل رد فعل القوى الاستعمارية وركائزها الرجعية المخدوعة في التحركات الجماهيرية في «طعن المفاهيم الشعبية وتجريح المطالب الديمقراطية التي بذل الشعب الكثير من دمه وجهده» في سبيل تحقيقها. والحقيقة هي أن «الشعب العربي في كل أقطاره لم يمارس النظام الديمقراطي في تلك الفترة، وأن الانتخابات البرلمانية استغلَّت ضعف الوعي السياسي عند أبناء العرب لصالح الإقطاعيِّين»، وأن الاصطدامات الدموية بين طلائع القوى المناضلة والحكومات «الديمقراطية» اندلعت من «وحي الشعور بالاعتراف بواقع واحد هو قيام الحكم الشعبي القومي التقدمي الاشتراكي».

وممّا سبق، تبرز ثلاث حقائق مهمة في الأفكار السائدة بشأن الإصلاح في تلك الفترة، وهي:

الحقيقة الأولى: إن طلائع الحركة القومية العربية لم تكن تمتلك درجةً من الوعي السياسي تؤهلها لتوجيه أبناء الأمة العربية توجيهًا صحيحًا. ويُعزى ذلك إلى عدم اتفاق فصائلها على كيفية إعداد مناهج الإصلاح، ورسم خارطة الحركة الإصلاحية، وتذبذبها بين الأخذ بالنظم والمبادئ الأوروربية المعاصرة في تلك الفترة، أو تطبيق المبادئ الإسلامية المناسبة لروح ذلك العصر ومتطلبات الإصلاح السياسي، وإلى عدم إدراكها لحقيقة الارتباط بين عناصر الوعي العربي والثقافة الإسلامية.

الحقيقة الثانية: إن ضعف مستوى الوعي السياسي لدى أتباع الحركة القومية العربية وأنصارها في بلاد العرب قد تجلَّى أيضًا في عدم استيعابها الصحيح لمفهوم «االوطنية» وعلاقته الجدلية بمفهوم «القومية»، فإذا كانت القومية الصحيحة، وليس الوطنية الصحيحة، تقوم على غرس الروح العربية للتاريخ العربي والأرض العربية والحياة العربية لدى أبناء الجيل الصاعد في البلدان العربية، فإن الوطنية الصحيحة لا تتمثل في تبنِّي الفئات الشعبية للمشروعات الحكومية الرامية لنشر العلم والصحة والقضاء على البطالة والفقر في صفوف المواطنين؛ فمسؤولية تحقيق هذه المهام تقع على الحكومة وبرنامجها السياسي؛ ذلك أن أساس الإصلاح القائم على التربية المدنية الصحيحة هو تحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي فإن دور الفئات الشعبية يجب أن يتضح بجلاءٍ في دعم، وليس تبنِّي، المشروعات الحكومية الرامية إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة والكادحة، والقضاء على الأمية والفقر.

الحقيقة الثالثة: يتجلَّى قِصر النظر السياسي لدى مُمثلي الحركة القومية العربية في ضعف استيعابهم لعبر التاريخ وتجارب الأمم، فإذا كانت سياسة الإصلاح الحقيقي هي عبارة عن منهج شامل لإعادة بناء الواقع المَعيش؛ ممَّا يتطلَّب تغيير عادات وتقاليد أبناء المجتمع، فكيف يمكن مُطالبة الشباب بزلزلة كيان الأمة وأخذها في طفرةٍ فجائيةٍ إلى طورٍ جديدٍ من أطوار الحياة إذا كانت هذه التقاليد والعادات الموروثة تترسَّخ مع مرور الزمن؟ وهل يمكن مطالبة الحركات الطليعية المُعادية الاستعمار بإقامة «الحكم الشعبي القومي التقدمي الاشتراكي» إذا كانت لا تملك وعيًا كافيًا بمفاهيم «القومية» و«التقدُّم» و«الاشتراكية»، وما تزال لم تحسم قرارها بعدْ فيما يتصل بالتعلُّق بركب الحضارة الغربية أو تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية؟ ولعلَّ محدودية الأفق السياسي لدى الحركة القومية قد جاءت «لضعف الوعي السياسي لدى قيادات الحركة العربية، والذي تسبَّب في تجزئة البلاد العربية بين الدول الاستعمارية الغربية في بداية القرن العشرين».