DELMON POST LOGO

3 أيام بين الرياض والدرعية ولقاء آل الشيخ

بقلم : عبد النبي الشعلة

بدعوة من أحد أعز الأصدقاء السعوديين زرت الرياض الأسبوع الماضي لثلاثة أيام بعد انقطاع طويل، لا عذر ولا مبرر مقبول له، دام لأكثر من ثماني سنوات.
الرياض العاصمة السعودية، رياض العز، حصن الإسلام وقلب العروبة النابض، أصبحت اليوم تضاهي أعرق الحواضر وأكثرها نموا وتمددا وتوسعا، خلايا وورش عمل منتشرة لا تعرف الهدوء ولا السكينة، تتخللها غابات من الرافعات المستخدمة في بناء المزيد من المرافق والمشاريع والضواحي والمجمعات السكنية والتجارية والصناعية والترفيهية، والمزيد من المساجد ومن المرافق الخدمية؛ مستشفيات، مدارس، جامعات، فنادق، محطات كهرباء، محطات تحلية، تشجير، شوارع وجسور وأنفاق، والعمل جار على قدم وساق لإنجاز مشروع السكة الحديدية؛ كل هذا النشاط وهذه الحركة تهدف إلى الإسراع في توفير أفضل الوسائل والخدمات للزائر والمقيم، والعمل على رفع مستوى معيشة المواطن ورفاهيته.
وعلى بعد 20 كيلومترا من الرياض تقع مدينة الدرعية التي لم أزرها من قبل، سمعت وقرأت عنها الكثير وعرفت أهميتها وموقعها في صلب التاريخ الحديث للمملكة، فقد ارتبط ذكرها بالدولة السعودية الأولى وكانت مهدها وعاصمتها.
كنت أتطلع إلى زيارتها، وفي هذه الزيارة الخاطفة تحققت أمنيتي عندما دعاني صديق سعودي عزيز آخر من كبار رجال الأعمال إلى الغداء في مزرعته فيها؛ فوجدت نفسي صدفة ودون إعداد مسبق أتجول بين أهم شوارعها وطرقاتها وأرى بعضا من أبرز معالمها وأبراجها وأسوارها وجبالها الصخرية الحمراء؛ نمط وفن معماري متميز وجمال طبيعي خلاب يُعطره عبق الأصالة والتراث والتاريخ.
في الدرعية، وفي سباق مع الزمن يتم الآن العمل على تطوير وتأهيل “حي الطريف” الذي يعتبر من أهم معالمها الأثرية، لاحتضانه أهم المباني والقصور والمعالم التاريخية، وقد أعلنته منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة موقع تراث عالميا في العام 2010، كما أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم اختارت في العام الماضي الدرعية عاصمة للثقافة العربية للعام 2030.
وفي سباق مع الزمن أيضًا يتم إنجاز المشروع الأم؛ مشروع “بوابة الدرعية” كأكبر مجهود تراثي وثقافي في العالم لتطوير “الدرعية التاريخية” لجذب 25 مليون زائر سنويًا؛ بحيث يسهم هذا المشروع في تحقيق رؤية السعودية 2030 ودعم الاستراتيجية الوطنية للسياحة التي تهدف بدورها إلى استضافة 100 مليون سائح سنويًا من أنحاء العالم في المملكة بحلول العام 2030.
وكانت ذروة زيارتي للرياض لقائي بمعالي الشيخ الدكتور عبد الله آل الشيخ رئيس مجلس الشورى، في منزله، الذي أتاح لي فرصة الاستماع إلى بعض من آرائه عما تحققه المملكة من تحولات وإنجازات على الأصعدة كافة في مرحلة تكتنفها الكثير من الفرص والتحديات، وما تشهده المنطقة من تطورات ومستجدات.
الشيخ الدكتور عبد الله آل الشيخ شخصية مرموقة ومعروفة ومحبوبة ليس على صعيد المملكة العربية السعودية فحسب ولكن على المستوى الخليجي والعربي وفي جميع المحافل والمنظمات والمنتديات القانونية والبرلمانية الدولية؛ وهو متحدث متمكن مشهود له بالفصاحة، واللباقة، ودماثة الخلق، وبشاشة المحيا، وسعة الصدر وغزارة العلم والمعرفة والاطلاع، والكفاءة الإدارية والقيادية.
فبعد أن قضى 17 عاما وزيرا للعدل أصبح يشغل منصب رئيس مجلس الشورى منذ العام 2009 وحتى الآن، إلى جانب عضويته في هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية؛ متمتعا بثقة القيادة السعودية ومتسلحا بقدرته وكفاءته على إدارة وتطوير هذا المرفق التشريعي المهم بكل حكمة واقتدار، وقد تمكن بالفعل ومن خلال رئاسته من ترسيخ تجربة الشورى كممارسة وطنية في المملكة يتم من خلالها تحقيق المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار ضمن مضامين مبدأ الشورى وقيمه الإسلامية وفي انسجام تام مع قواعد الحكم في الأنظمة العصرية الحديثة.
ولمجلس الشورى في المملكة كما هو الحال في البحرين دور تكميلي، وهو شريك أساسي وأحد أهم أجهزة صنع القرار في الدولة، وبفضل قيادة آل الشيخ فقد بلغت تجربة الشورى في المملكة مرحلة متقدمة من النضج والتطور والنمو شملت انضمام عدد أكبر من السيدات المؤهلات إلى عضويته مؤخرًا، معززا بذلك مكانته كمنبر لاستقطاب الكفاءات العلمية والتخصصية والخبرات العملية والمهنية واستنهاض إمكاناتها جميعا لخدمة الوطن.
ولسنوات عديدة وحتى الآن ظلت تجمعني علاقات صداقة وطيدة بعدد من أعضاء مجلس الشورى السعودي الذين يتحلون بأعلى درجات الكفاءة والخبرة والاقتدار والتفاني والإخلاص والإحساس بالمسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقهم.
والشيخ الدكتور عبدالله آل الشيخ إنسان ملتزم دينيا ومنفتح فكريا ومسكون بالحس الوطني ومعروف باعتداله ووسطيته وتصالحه مع تطورات عصره، وقد ولد في مدينة الدرعية وتربى في بيت علم وتقوى وورع على يد والده مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وهو أحد أحفاد الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب الذي حمل “دعوة التوحيد” إلى الدرعية في العام 1744م عندما كان أميرها الأمير محمد بن سعود الذي أرسى قواعد ودعائم الدولة السعودية الأولى فيها في العام 1727م، وهو العام الذي تعتبره المملكة العربية السعودية “عام تأسيس الدولة السعودية الأولى”، واعتمدت يوم 22 فبراير من كل عام كإجازة وطنية رسمية تخليدا لهذه الذكرى.
لقد اعتنق الأمير محمد بن سعود دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وناصره وتحالف معه منذ وصوله إلى الدرعية، ووقع الطرفان في العام نفسه اتفاقية تحالف عرفت تاريخيا باسم “اتفاق الدرعية” صار بموجبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب يدعو الناس والأمراء وزعماء القبائل إلى دعوته وإلى الانضمام إلى الأمير محمد بن سعود لنشر الدعوة وتوسيع نفوذ ورقعة الدولة السعودية.
لقد تضمن اتفاق الدرعية تفاهمات تم على أساسها تحديد العلاقة بين الدين والدولة، وتقاسم المسؤوليات بين الأمير وأنصاره من جهة والشيخ وأتباعه من الجهة الأخرى في صيغة شبيهة أو أقرب ما تكون إلى مفهوم سياسي معروف يدعو إلى فصل الوظائف أو السلطات الدينية عن الوظائف أو السلطات الدنيوية، وعلى كل حال فقد بقيت صيغة هذا التعاون والتحالف بين بيت الحكم والمؤسسة الدينية صامدة وأدت إلى توسع دعوة محمد بن عبدالوهاب وإلى ترسيخ قواعد الدولة السعودية وتمددها وتوحيدها في النهاية على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وإعلانها تحت اسم المملكة العربية السعودية في العام 1902؛ ومنها انطلقت الدولة السعودية إلى مختلف آفاق النمو والبناء والتطور والاندماج في المجتمع الدولي كدولة فاعلة بثقل محسوس ومكانة مرموقة.
ومع إطلالة العقد الثامن من القرن الماضي تعرضت هذه الصيغة من التعاون والتحالف للاهتزاز عندما استغلت بعض التيارات المتطرفة قيام الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفيتي لأفغانستان واعتداء جماعة جهيمان على الحرم المكي فتسللت تحت شعار “الصحوة” إلى بعض مرافق ودوائر الدولة وأخذت من خلالها في الزحف على سلطات المؤسسة السياسية والهيمنة على بعض جوانب اختصاصاتها، ومحاولة عرقلة نمو الدولة وتطورها وإغلاق المجتمع ودفعه إلى مزالق التخلف والجهل والتعصب والعنف؛ إلى أن تولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد الحكم في العام 2015، وبمؤازرة ولي عهده الأمين رئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، فتم كف الأيدي العابثة، وإخماد الأصوات المتطرفة، وإحياء روح التسامح والتعايش واستعادة كامل هيبة الدولة وسلطاتها والعودة إلى ركب الحضارة والتطور والرقي.