DELMON POST LOGO

الأزمة الأوكرانية والخيارات الإستراتيجية للدول العربية الخليجية

بقلم : عبدالنبي الشعلة

سبق أن ذكرنا على هذه الصفحة أن الأحداث والتطورات التي يشهدها العالم اليوم على الساحة الأوكرانية ليست أقل أهمية وخطورة من الأحداث والتطورات التي أدت إلى اندلاع الحربين العالميتين السابقتين وما نتج عنهما من استحقاقات، والتي لم يكن للدول العربية وقتها أي دور محسوس فيهما، بل على العكس، فقد كانت هذه الدول مجرد كيانات متفرقة وأدوات تم تشكيلها وتحريكها والتحكم في مصائرها حتى يومنا هذا، ويبدو أن السماء قد شاءت أن توفر لنا هذه المرة، في ساحة الصراع بين المعسكر الغربي وروسيا على الأرض الأوكرانية فرصة لتصحيح أوضاعنا، وتثبيت موقعنا على خارطة الأحداث الدولية، والانتقال من خانة الدول المتلقية المتأثرة الخانعة والتابعة، إلى موقع متقدم في صفوف الدول المؤثرة الفاعلة التي تضع مصالحها قبل وفوق أي اعتبار آخر، وتستخدم أوراقها بحكمة وروية لتضعها في المكان الصحيح على طاولة اللعبة السياسية ضمن أولوياتها الإستراتيجية؛ ففي هذا الصراع برز عنصر الطاقة كعامل جوهري حاسم، وبما أن الدول العربية الخليجية تشكل أكبر تجمع أو كتلة منتجة ومصدرة للطاقة النفطية والغازية في العالم، فإن القدر قد وضع في أيديها مفاتيح تمكنها من فتح أبواب جديدة لتعزيز وتأكيد موقعها ومكانتها.
من هذا المنطلق، فإن الاتصالات والمبادرات والمواقف السعودية الأخيرة وما أبدته من استعداد لمواصلة جهود الوساطة للإفراج عن أسرى الحرب، والزيارة التي قام بها مؤخرا إلى موسكو صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، ومحاولة الدولتين لإيجاد حل سلمي للأزمة تأتي دون شك في إطار إدراك الدول العربية الخليجية لأهمية وعمق المستجدات الدولية، ولمكانتها ودورها في خضم هذه المستجدات.
وعلى الرغم من أن شعورا بالفرحة قد انتاب الكثيرين منا، الذين بدأوا بالاحتفال بانتصار الروس على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، منذ الأيام الأولى للحرب، وذلك ليس حبا أو تعاطفا مع روسيا أو أوكرانيا، وإنما نكاية وشماتة بالولايات المتحدة وحلفائها لمواقفهم المناهضة لقضايا العرب المصيرية، إلا أن شعوب الدول العربية الخليجية تتوخى من قياداتها عدم تفويت هذه الفرصة، واستخدام أوراقها بحكمة وروية لتضعها في المكان الصحيح على طاولة اللعبة السياسية، وألا تراهن على الحصان الخاسر أو غير المؤهل للفوز، فالواضح اليوم أن روسيا دخلت في مواجهة مفتوحة وقطيعة طويلة الأجل مع محيطها من الدول الأوروبية وغيرها من الدول إلى جانب الولايات المتحدة بالطبع بعد أن تم استفزازها وجرها إلى المستنقع الأوكراني الشبيه أو الأسوأ من المستنقع الأفغاني الذي ذاق من ويلاته الاتحاد السوفييتي من قبل وهو في أوج عظمته وقوته ما ساهم في النهاية إلى انهياره.
إن قيادات الدول العربية الخليجية لاشك على قناعة وإدراك تام بأن تاريخ الصراعات المماثلة ومنظومة العلاقات الدولية الراهنة لا تسمح بقيام أية دولة باجتياح أو غزو أراضي دولة أخرى، ولا يمكن قبول أي مبررات لذلك مهما كانت راجحة ومقنعة، كما لا يمكن أن يؤدي مثل هذا الغزو إلى انتصار الغازي في النهاية أو إلى تحقيق أهدافه المرسومة والمتوخاة، بل إنها في الغالب تؤدي إلى نتائج عكسية كارثية بالنسبة إليه، ولا يمكن لروسيا أن تشذ عن هذه القاعدة، وستأخذ الدول العربية الخليجية ذلك في عين الاعتبار عند تحديد مواقفها وأولوياتها وتحركاتها، كما ستأخذ في الاعتبار أنه لا قيمة لمسرحية الاستفتاءات الصورية التي نظمها بوتين على عجالة قبل بضعة أسابيع في أربع مناطق أوكرانية احتلتها القوات الروسية بعد غزوها في شهر فبراير الماضي، والتي على أثرها أعلن بوتين ضم هذه المناطق إلى روسيا الاتحادية، فقد رفض العالم بأسره هذا القرار “غير القانوني”، وأدانته الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي وبأغلبية ساحقة، وصوت على قرار الإدانة 143 دولة من بينها الدول العربية الخليجية وباقي الدول العربية ما عدا سوريا، إن خطوة بوتين التي تشكل أكبر خرق للقانون الدولي وأكبر عملية ضم للأراضي بالقوة في أوروبا منذ الحرب العالمية الأخيرة أدت إلى تعقيد الأزمة وتصعيد التوتر وإلى اضطراره إلى إعلان تطبيق الأحكام العرفية في هذه المناطق لعدم مقدرته على السيطرة عليها.
ويقال “أن التاريخ يعيد نفسه وأن أحداثه لها شكل الدائرة المغلقة”، وعليه فإن الأيام القادمة ستثبت أن بوتين قد أخطأ في اتخاذه قرار الضم، ولا نحتاج للرجوع إلا إلى صفحات قليلة من سجل التاريخ الحديث لنرى أن مثل هذه التصرفات اليائسة لم ولن تؤدي إلى تحقيق الهدف، ولن تُجدي نفعًا، وسيكون لها بالتأكيد عواقب وخيمة، فلم يُجد نفعًا قرار صدام حسين ضم الكويت للعراق عندما غزاها في العام 1990 على سبيل المثال لا الحصر، إن هذا المنطق وهذه الحقيقة تنطبق وتنسحب كذلك على قرار إسرائيل ضم القدس الشرقية وهضبة الجولان.
إن قيام بوتين بفبركة تلك الاستفتاءات وبتلك السرعة واتخاذها ذريعة لضم مناطق أوكرانية إلى روسيا بالقوة إنما جاء كرد فعل ونتيجة لما تشهده ساحات المعارك من تطورات وما تحققه القوات والمليشيات الأوكرانية من انتصارات وما تتكبده القوات الروسية من خسائر وانتكاسات على جبهات القتال والتي تؤكد وتثبت بدورها أن روسيا قد انزلقت بالفعل إلى المستنقع الأوكراني الذي أصبح من أبرز شواهده وأشده وطأة حتى الآن تفجير جسر القرم.
ومن البداية، فإن بوتين كان قد أخفق وأخطأ في حساباته عندما قرر غزو أوكرانيا في شهر فبراير الماضي، وهو خطأ فادح ستكون له آثار خطيرة على حاضر ومستقبل روسيا.
وأخطأ كذلك في تقديره لمدى استعداد الشعب الروسي لشن حرب غير مضمونة النتائج ما أدى إلى تعثر عملية التعبئة في قوات الاحتياط الروسي التي أعلن عنها، وإلى هبوط معنويات الجنود الروس في ميادين القتال، وهي حالة متوقعة لأفراد الوحدات النظامية الغازية كلما طال أمد الحرب، هذا ما حصل للقوات الروسية وبعدها الأميركية في أفغانستان، وهذا ما حصل للأميركان في فيتنام من قبل.
وأخطأ بوتين أيضًا في تقدير قوة وصلابة الصمود والمقاومة التي أبداها ويبديها الشعب الأوكراني الناتجة عما يتمتع به الأوكرانيون من تعاطف ودعم دولي وما يتلقونه من معدات قتالية وأسلحة متطورة ومساعدات مالية سخية بما فيها 400 مليون دولار قدمتها المملكة العربية السعودية قبل أيام كمساعدات إنسانية للشعب الأوكراني، إلى جانب أن الولايات المتحدة وحدها كانت قد أعلنت قبل بضعة أيام أيضًا عن إدراج 12 مليار دولار إضافية كمساعدات عسكرية واقتصادية جديدة لأوكرانيا.
إن المساحة المتبقية لنا على هذه الصفحة لا تسمح بالمزيد من الاستطراد، ولا تسمح باستعراض جوانب الصراع الاقتصادي الذي يخوضه المعسكران، والذي يطرح السؤال الملح، وهو: إلى أي مدى ستستطيع روسيا تحمل المقاطعة والضغوط الاقتصادية الخانقة والمتصاعدة التي تمارسها عليها الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفاؤها وغيرها من دول العالم؟
إن كل هذه التساؤلات والمعطيات والاستحقاقات تجعل الدول العربية الخليجية قادرة على رسم خارطة أولوياتها وخياراتها الإستراتيجية تجاه الأزمة الأوكرانية.