DELMON POST LOGO

مرة أخرى مع أعراسنا الانتخابية... وما سُمِّي بـ“قانون العزل”

بقلم : عبدالنبي الشعلة

المقال الذي نشرته  الأسبوع الماضي تحت عنوان “قراءة لمشهد الانتخابات النيابية... لنختر البناء وليس الهدم” حظي باهتمام واسع تلقيت على إثره الكثير من الاتصالات من مختلف الأطياف التي تضمّنت جملة من الملاحظات والتساؤلات سأحاول التطرق إلى بعضها في هذه الوقفة.
لم أكن مبالغًا، ولا عيب أو ضير إن كنت متحمسًا ومتفائلًا عندما أشدت بنجاح الجهود التي بُذلت لبث وترسيخ الوعي الوطني بأهمية الممارسات الديمقراطية واقتناع المجتمع البحريني بتلك الجهود وتجاوبه معها، فهذه أبرز مظاهر هذا الوعي تتجلى أمام أعيننا الآن بكل وضوح في شكل عرس صاخب استعدادًا للانتخابات القادمة بعد أيام قليلة.
فقد اكتملت بنجاح وسلاسة قبل أسابيع إجراءات الترشيح للدورة القادمة التي شهدت إقبالًا وتدافعًا بين المترشحين لم يسبق له مثيل، تخللته حالات من التنازع بينهم وصلت إلى ساحات القضاء، وهي ظاهرة صحية تقتضيها مرحلة نمو وتطور التجربة البرلمانية، وبعدها بدأت الساحة الانتخابية تشهد حراكًا محمومًا ومزحومًا بالأنشطة والفعاليات والحملات الانتخابية، كما أخذت شوارع وميادين البحرين في كل مدنها وقراها تكتسي باليافطات والملصقات واللوحات الإعلانية التي تحتوي على شعارات المترشحين وصورهم الشابة الواعدة المشرقة، وامتلأت الصحف المحلية بأخبارهم وتصريحاتهم ومشاريعهم ووعودهم وبرامجهم الانتخابية وإعلاناتهم، كما ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي برسائلهم وتغريداتهم. وانشغل المترشحون أيضًا بالزيارات والتنقلات والاتصالات الهاتفية بالناخبين واستقبالهم في خيمهم ومجالسهم ومراكزهم الانتخابية، حيث توزع الحلوى والشيكولاتة وتدور أكواب العصائر وفناجين القهوة، وفي بعضها تنبعث روائح “البخور والطيب” من “المباخر”، إنه عرس انتخابي زاهٍ ومشهد وطني رائع يؤكد ويعكس بوضوح، كما قلنا، نجاح الجهود التي بُذلت لبث وترسيخ الوعي الوطني بأهمية الممارسات الديمقراطية واقتناع المجتمع البحريني بتلك الجهود وتجاوبه معها.
وقول الذين “في قلوبهم مرض” إن مستوى مترشحي الدورة القادمة متدنٍ من حيث افتقارهم للخبرة والدراية والتحصيل العلمي المناسب ليس صحيحًا ولا منصفًا ولا مقبولًا، وفيه الكثير من مجافاة الحقيقة ومن التجني والإجحاف، والصحيح أن غالبية المرشحين هم في سن الشباب من الجنسين، وهي في الواقع خَصلة حميدة وميزة حسنة وليست خَلّة أو نقيصة، ولو كان خلاف ذلك لعابوا علينا وقالوا إن مترشحينا كهول محنطون فاقدو الصلاحية، وإن الشباب عازفون عن الترشح، إننا نفخر بشبابنا ونعتز برغبتهم واستعدادهم للعطاء، ثم من قال إن الحكمة والرزانة ورجاحة العقل هي حكر على كبار السن فقط، فكم رأينا أن العكس صحيح في كثير من الحالات، وفي ذلك يقول المتنبي:
فما الحَداثةُ من حلمٍ بمانعةٍ
قد يوجد الحِلمُ في الشبان والشيب
ولو أجرينا مقارنة لوجدنا أن مستوى خبرات ومؤهلات المترشحين أخذت في الارتفاع والارتقاء الدورة بعد الأخرى، وإن مستوى تأهيل المترشحين للدورة القادمة أفضل بكثير من الدورات السابقة: فالغالبية العظمى منهم يتمتعون بالكفاءات العلمية والتخصصية والخبرات العملية والمهنية المرموقة، إضافة إلى أن توالي الدورات الانتخابية واستمرارها وثباتها أدت دون شك إلى تراكم خبرات المترشحين وقدراتهم وإمكانياتهم التشريعية والرقابية، بما يؤدي بالنتيجة إلى ترسيخ دور المؤسسة التشريعية في مجتمعنا.
وعلى كل حال، فليطمئنَّ الشاكِّون والمتخوفون إلى أن الشارع قد أخذ في الاعتبار مثل هذه المخاوف والاحتمالات، وتدارك الأمر بأن أردف مجلس النواب المنتخب بمجلس شورى معين يتم تطعيمه بالكفاءات والخبرات والمهارات العالية في مختلف المجالات، مستفيدًا ومستنيرًا بتجارب الدول العريقة التي تتبع نظام المجلسين أو الغرفتين.
وفي البداية اتبع الشارع البحريني صيغة معظم الدول المتقدمة التي تعطي الأولوية للغرفة المعينة، ويطلق عليها مجلس الشيوخ أو الأعيان أو ما شابه، فجعلها العليا أو الغرفة الأولى، إلا أن الشارع البحريني عكَسَ هذه الصيغة لاحقًا بموجب تعديل دستوري أعطى مجلس النواب الأولوية وجعله يتقدم على مجلس الشورى، وأصبح رئيس مجلس النواب يتولى رئاسة اجتماع المجلس الوطني في حالة انعقاده، والمجلس الوطني البحريني أو الهيئة التشريعية كما يسمى في بعض الدول يتكون من مجلسي النواب والشورى، ويجتمع؛ لبحث الموضوعات المشتركة بين المجلسين أو المختلف عليها.
وفي الحقيقة، فإن مجلس الشورى في البحرين أصبح مساندًا وعضُدًا قويًّا لمجلس النواب، وهناك أعضاء في مجلس الشورى على أعلى درجات التأهيل العلمي والعملي ممن قضوا أكثر من 30 عامًا في عضويته، وهم يكتنزون ويراكمون الخبرات والمهارات البرلمانية، واكتسب بعضهم سمعة إقليمية وعربية وعالمية، وأصبحوا لامعين في المحافل والمؤتمرات البرلمانية الخليجية والعربية والدولية، وكان لي شرف عضوية هذا المجلس لأكثر من دورة قبل أن أُعيّن وزيرًا في العام 1995.
لا، ولم أكن “جبانًا” ولا “خائفًا” عندما تجنبت التطرق إلى ما سُمي بـ“قانون العزل” في مقالي السابق، فأنا أدرك ومؤمن بأن حرية التعبير مكفولة ومضمونة في بلادي مادامت تلك الحرية ملتزمة بروح المسؤولية الوطنية والمعايير المهنية والأخلاقية، إلا أن المساحة المتوافرة لكل مقال، ومزاج القارئ، لا يتسعان لمزيد من الاستطراد وحشو الكثير من الأفكار والمعلومات في ذلك الحيز، فاكتفيت بالقدر المتاح لا سهوًا ولا خوفًا. وقانون العزل تسمية أطلقت على القانون رقم (25) لسنة 2018 بتعديل المادة الثالثة من المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 2002 بشأن مباشرة الحقوق السياسية، والذي أقرَّه مجلسا الشورى والنواب قبل أن يُصدّق عليه جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه ويصدر كقانون. وهذا القانون يمنع من الترشح لمجلس النواب كل مَن حُكم عليه بعقوبة جنائية حتى وإنْ صدر بشأنه عفوٌ خاصٌ عن العقوبة أو رُدَّ إليه اعتباره، ومن حُكم عليه بعقوبة الحبس في الجرائم العمْدية لمدة تزيد على ستة أشهر، حتى وإنْ صدر بشأنه عفو خاص عن العقوبة، وقيادات وأعضاء الجمعيات السياسية الفعليون المنحلَّة بحكم نهائي لارتكابها مخالفة جسيمة لأحكام دستور المملكة أو أيِّ قانون من قوانينها، وأخيرًا كل مَن تعمَّد الإضرار أو تعطيل سير الحياة الدستورية أو النيابية، وذلك بإنهاء أو ترْك العمل النيابي بالمجلس، أو تم إسقاط عضويته للأسباب ذاتها.
هذا القانون لا يختلف في هدفه أو نصه أو روحه عن الكثير من القوانين المماثلة في الكثير من الدول، وقد ارتكز الشارع في صوغه لهذا القانون على السلطة التقديرية التي يملكها والمخولة له بموجب الدستور؛ لحفظ سلامة الأمة ومكتسباتها، وإعمالًا للتفويض الدستوري الذي أحال إليه تنظيم عملية مباشرة المواطن لحقوقه الدستورية.
وهذا القانون أو التعديل لا يَهدُر ما نصت عليه المادة 18 من الدستور التي تنص على أن “الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”، فالاستثناء الوارد في التعديل لم يأتِ على أساس أو بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، وقد استخدم الشارع الأداة القانونية التي تخوله تنظيم وتحديد الحقوق والحريات العامة على أساس المادة رقم 31 من الدستور التي تنص على أن “لا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون”.
مع ذلك، فإن المدافعين عن هذا القانون يعتبرونه إجراء فرضته الظروف قسرًا؛ بهدف المحافظة على مكتسباتنا النيابية، والكثيرون يرون أنه مثل الفيروسات التي تحقن في الجسم السليم؛ لضمان حصانته ومناعته وحمايته من الأمراض الخطيرة الضارة المعدية، وأنا واثق بأنه قانون ستنتفي الحاجة إليه بعد انقضاء الدورة القادمة واستقرار الثقة وتخطي إفرازات وتداعيات 2011 إن شاء الله.