DELMON POST LOGO

من مقهى الفيشاوي ومقهى جروبي بالقاهرة (1 من 2)

بقلم : عبد النبي الشعلة
في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي شهدت البحرين توسعًا ملحوظًا في عدد المقاهي، وإن كان محدودًا جدًا ومحصورًا في مدينتي المنامة والمحرق؛ وازداد نتيجة لذلك عدد روادها.
كان من أبرز هذه المقاهي “قهوة معرفي” بالمنامة و”قهوة بو خلف” بالمحرق، وكان أهالي المحرق أكثر إقبالًا على ارتياد المقاهي، كما أن ارتياد المقاهي ظل مقتصرًا على عامة الناس بطيبتهم وعفويتهم وبساطتهم من مهنيين وحرفيين وبحارة ومزارعين وصيادين وبائعي معدات الصيد وما شابه، وعلى خلاف الكثير من الدول والمجتمعات، فإن المقاهي في البحرين لم تستهوِ أو تستقطب النخبة من وجوه ورؤوس المجتمع بشكل لافت مثل المثقفين والأدباء والتجار والشيوخ، بل بالعكس، فإن هذه الشرائح من المجتمع تجنبت ارتياد المقاهي ومجالسة روادها واعتبرتهم “ناس فاضين ما عندهم شغل” يقضون ويضيعون وقتهم في اللهو وشرب الشاي وتدخين “القدو”، أي الأرجيلة ولعب “الدومنة” و”البتة” أي الكوتشينة، والاستماع للأغاني وخصوصًا بعد أن انتشرت أجهزة الراديو والغرامافون في المقاهي، وقتها كان المجتمع بشكل عام ينظر إلى ارتياد المقاهي على أنها ممارسة أو عادة غير حميدة لا تليق بوقار وهيبة ووجاهة ومكانة الصفوة، اللهم إلا فيما ندر، إلا أن هناك مقهى يقع في “سوق الطواويش” أو سوق تجار اللؤلؤ بالمنامة اسمه “قهوة أبو ناجي”، كان يتجمع فيه في بعض الأحيان عدد قليل من صغار الطواويش وتعقد فيه بعض الصفقات الصغيرة لبيع وشراء اللؤلؤ الطبيعي، ما عدا ذلك، فإننا لم نرَ أو نسمع، على سبيل المثال، أن الشاعر عبدالرحمن المعاودة أو الشاعر إبراهيم العريض أو أيًّا من كبار التجار والوجهاء أو أفراد الأسرة الحاكمة أو من كبار المسؤولين كان يرتاد المقاهي إلا نادرًا؛ ولذلك لم يُنسب إلى مقاهي البحرين أي دور أو إسهام أو إفراز ثقافي أو فني أو سياسي أو اقتصادي يماثل ما كان يحصل في بعض الدول والمجتمعات؛ لقد راودتني هذه الأفكار وأنا جالس أشرب القهوة في مقهى أو “قهوة الفيشاوي” أثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة قبل بضعة أيام.
مقهى  الفيشاوي، الذي افتتح في العصر العثماني في العام 1797م، صار أحد أعرق الأماكن التراثية في مصر، ويقع في زقاق ضيق بسوق خان الخليلي بحي الحسين في قلب القاهرة الفاطمية، وقد اكتسب هذا المقهى شهرته وبريقه بفضل الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، الذي جعل منه مكانه المفضل، حيث نسج فيه ثلاثيته الشهيرة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و“السكرية” الحائزة على جائزة نوبل، وكان نجيب محفوظ يلتقي فيه أصدقاءه ومحبيه من الكتاب والفنانين وبسطاء الناس.
كما حصل هذا المقهى على شهرته من جلوس الشاعر الغنائي أحمد رامي الذي كتب أغاني مازلنا نتذوقها ونتغنى بها للراحلة أم كلثوم.
وقبل ذلك جلس في مقهى الفيشاوي الشيخان المفكران جلال الدين الأفغاني ومحمد عبده؛ ليرسما طريق التجديد في الفقه الإسلامي، إلى جانب ذلك فقد كان من أشهر رواد المقهى الزعيم المصري المرحوم سعد زغلول والرئيس الجزائري المرحوم بوتفليقة والرئيس اليمني المرحوم علي عبد الله صالح، والرئيس السوداني المرحوم جعفر النميري.
وكان يرتاد هذا المقهى قادة الفكر والمجتمع وكبار الأدباء والكتاب والمفكرين والشعراء ورموز الفن والأدب والثقافة ونجوم السينما في مصر، منهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وبيرم التونسي وغيرهم من الشخصيات التي أثرت التاريخ الثقافي والفني في مصر والعالم العربي، وقد شهد المقهى مساجلات وجلسات أدبية واسعة، كما كانت “قهوة الفيشاوي” تحتوي على زاوية خاصة يطلق عليها اسم “القافية”، كان يجتمع فيها الأدباء والشعراء ويتبارون في نظم الشعر وإلقائه، وتجرى فيها “مسابقات القافية” خلال خمسينات القرن الماضي، حيث تنظم هذه المسابقات بين مجموعتين مختلفتين يستخدم فيها المشاركون مهاراتهم اللغوية، وكانت المسابقات تتواصل طوال الليل.
وفي المقهى غرفة تسمى غرفة الباسفور كانت مخصصة بشكل أساسي للملك فاروق وضيوفه عندما كان يزور المقهى في شهر رمضان المبارك.
ولذلك فقد أصبح مثل هذا المقهى في الكثير من المجتمعات مرآة للحراك الاجتماعي يعكس نبض ومزاج الشعوب وهويتهم وطبائعهم وتقاليدهم، ويعتبر بمثابة سجل وتاريخ غني يحظى بشعبية واسعة بين النخبة الأدبية والفنية والسياسية ويساهم في المحافظة على أصالة وخصوصية وعراقة التراث.
وفي خان الخليلي بحي الحسين، حيث يقع مقهى الفيشاوي، يتجول عدد من الأفراد من الظرفاء وخفيفي الظل الذين يعرضون خدماتهم على الزوار والسياح ويقدمون أنفسهم كمرشدين سياحيين أو رواة للنكت المصرية المعروفة أو خبراء في شراء التحف النادرة من السوق بأسعار زهيدة!! وإن الاتفاق مع أحدهم ومرافقته في التجوال في المنطقة يصبح جزءا من متعة الزيارة. وقد دعوت أحدهم للجلوس إلى جانبي في قهوة الفيشاوي في هذه الزيارة، بصفته مرشدا سياحيا، فأكد لي بأغلظ الإيمان ما سمعته في زيارتي الأولى للمقهى من أن الأمبراطورة الفرنسية الحسناء “أوجيني” أثناء إقامتها في القاهرة في “قصر الجزيرة” لحضور الاحتفالات بافتتاح قناة السويس في العام 1869 كانت تقوم بزيارات للأماكن والمواقع والمعالم الأثرية والتراثية، وعندما كانت تتجول في خان الخليلي ألمت بها وعكة صحية خفيفة من شدة الحر، وكان أقرب مكان لها للجلوس والراحة قهوة الفيشاوي، فاستقبلها ورحب بها صاحب المقهى المعلم فهمي الفيشاوي؛ الذي كان وقتها شابا وسيما طويل القامة مفتول العضلات، فقدم لها كوبا من الشاي الأخضر المعطر بالنعناع الطازج، فأحسَّت الأمبراطورة بعد شربه بالراحة والانتعاش، وبعدها صارت تطلب إحضار المعلم فهمي الفيشاوي إلى قصر الجزيرة يوميا ليعد لها ويسقيها الشاي الأخضر المعطر بالنعناع الطازج. وتقول الأسطورة على لسان المرشد السياحي الظريف إن الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أرسلت أحد مراسليها إلى القاهرة للقاء المعلم فهمي الفيشاوي الذي كان قد بلغ وقتها التسعين من عمره لتعرف منه، مقابل أي مبلغ يطلبه، ما الذي حصل وماذا دار بينه وبين الأمبراطورة في قصر الجزيرة أثناء زياراته المتكررة لها؟ لكن المعلم رفض أن يفتح فاه على الرغم من كل المغريات.
وللحديث من مقهى الفيشاوي ومقهى جروبي بالقاهرة بقية غدًا.