DELMON POST LOGO

من مقهى الفيشاوي ومقهى جروبي بالقاهرة (2 من 2)

بقلم : عبد النبي الشعلة

زرت القاهرة الأسبوع الماضي، وكان “مقهى الفيشاوي” و”مقهى جروبي” من بين المعالم المهمة التي وضعت زيارتهما على رأس برنامج هذه الزيارة، كما كان الحال عندما زرت القاهرة لأول مرة في شهر يناير 1974، في تلك الزيارة كنت أقضي شهر العسل مع زوجتي التي أصرت، سامحها الله، على أن يكون أول بند في برنامج الزيارة هو زيارة ضريح الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بمنطقة كوبري القبة لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة ووضع إكليل من الورود على ضريحه!! فكانت فاتحة عطلة شهر عسلنا زيارة الأضرحة والموتى!! وكان سائق التاكسي كريما ومقدرا لهذه اللفتة الإنسانية، كما أسماها، فعرض علينا رؤية بيت الرئيس الراحل من الخارج في منشية البكري القريبة من منطقة كوبري القبة دون أي أجر إضافي، فقبلنا العرض شاكرين.

في تلك الزيارة سكنا في فندق “عمر الخيام” الذي كان يسمى “قصر الجزيرة” في العهد الملكي، بناه الخديوي إسماعيل على أرقى وأفخم المواصفات والمستويات لإقامة الإمبراطورة الفرنسية الفاتنة الحسناء “أوجيني” وحاشيتها أثناء زيارتها للقاهرة لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس في العام 1869م، وبعد 20 عامًا بيع القصر وتم تداول ملكيته إلى أن حُول إلى فندق صغير أنيق تحت اسم “فندق قصر الجزيرة” في العام 1906، ثم عاد مرة أخرى ليصبح قصرا سكنه أحد الأثرياء اللبنانيين.

وبعد الإطاحة بالنظام الملكي في العام 1952 أُمم القصر وأُعيد تأهيله كفندق صغير كما كان من قبل تحت اسم “فندق عمر الخيام”، وعندما سكنا الفندق في العام 1974 بدا وكأنه صرح متعب مرهق، منتهَك الشموخ والهيبة، سُلب منه أهم وأثمن مقتنياته، وكان ينتاب الإنسان إحساس غريب وهو يسكن في فندق عمر الخيام في ذلك الوقت، حيث يرى فيه أشلاء الذوق الرفيع، ويشم فيه عبق مصر الراقي الجميل، ويسمع فيه أنين الجدران وحنينها إلى ماضي مصر المنيف. بعدها بعدة أعوام ازداد الطين بلة عندما تم خنق قصر الجزيرة أو فندق عمر الخيام ومحاصرته ببرجين اسمنتيين عاليين ليصبح ممرا بين البرجين وجزءا حزينا في وسط مجمع ضخم أطلق عليه “فندق ماريوت”.

ومن مقهى الفيشاوي الذي يقع في زقاق ضيق بسوق خان الخليلي بحي الحسين في قلب القاهرة الفاطمية، كما قلنا في الجزء الأول من هذا المقال، والذي كان يمثل واحدا من جذور الأصالة في مصر؛ ذهبت في اليوم نفسه لزيارة “مقهى جروبي” الذي يقع بميدان طلعت حرب وسط القاهرة في واحدة من أفخم البنايات العريقة التي تنطق جمالاً وأناقة يعكسهما طرازها المعماري من عصر الباروك، وكنت مثل الملايين غيري من العرب قد سمعت الاسم وشاهدت لقطات من المكان في عدد من الأفلام المصرية القديمة الرائعة، وزرته في أول زيارة لي للقاهرة قبل 48 عامًا عندما كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة كصرح حضاري ثقافي ومركز من مراكز الإشعاع والحداثة الذي أرسى ذوقا وتقاليد جديدة في المجتمع المصري منذ تأسيسه في ثمانينات القرن الثامن عشر.

ومع مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه، أصبح مقهى جروبي مرآة للنخبة والصفوة في المجتمع المصري، والمكان الذي يرغب ذوو القامة والمقام أن يُشاهدوا فيه، وصار يشكل نبض النهضة الفنية والحياة الاجتماعية والسياسية الصاخبة في القاهرة وملتقى طبقاتها الارستقراطية، هنا كانت تقدم أطيب المأكولات والحلويات والمشروبات والعصائر، وتبرم الاتفاقيات وتعقد الصفقات والتسويات والتحالفات، وهنا كان زوار مصر من قادة ورؤساء الدول يأتون لشرب قهوته المميزة، وهنا كانت تجتمع الشخصيات التي صنعت تاريخ مصر الحديث، ويلتقي فيه كبار السياسيين بالسفراء وبكبار التجار والوجهاء، ويلتقي فيه أيضًا كبار الأدباء والفنانين بنجوم المسرح والسينما، وهنا كان يُرحب بالنساء والعائلات على خلاف المقاهي التقليدية التي كانت حصرًا على الرجال في ذلك الوقت، ولم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى جروبي إلا إذا كان بكامل أناقته، وكان الملك فاروق يتردد على المقهى، وفي إحدى المناسبات أمر المقهى بإعداد كعكة ضخمة تزن مائة كيلوغرام من الشيكولاته التي يفضلها وأرسلها في رحلة طولها آلاف الأميال لتصل كهدية منه إلى مائدة البلاط الملكي البريطاني للملك جورج السادس.

وفي العام 1960 أطبق جهاز المخابرات المصري على مقهى جروبي وألقى القبض على “جورج استاماتيو” أحد العاملين في المقهى الذي كان يرأس شبكة تجسس تعمل في مصر لصالح الموساد الإسرائيلي، وهو ما عرف وقت ذاك باسم “عملية سمير الإسكندراني” نسبة إلى الضابط المصري الذي تمكن من كشفها.

إن مقهى جروبي العريق يمكن أن يوصف بأنه كان مشروعًا حضاريًا أسسه السويسري “جاكوم جروبي” الذي أدخل أول قطعة آيس كريم إلى مصر في العام 1889، وقتها كانت مصر في العهد الملكي بؤرة جذب واستقطاب للاستثمارات الأجنبية والكفاءات والذوق الرفيع، فاستقطبت جروبي من سويسرا ليفتتح هذا المقهى في أرقى الأحياء في العالم وقتها، نعم أقصد العالم كله وليس العالم العربي فقط، ليضاهي مقاهي باريس وفيينا وقتها أيضًا، في ذلك الوقت الذي كان الناس فيه يعشقون الجمال.

في زيارتي الأخيرة للقاهرة الأسبوع الماضي وصلت إلى مقهى جروبي بميدان طلعت حرب فوجدته ما يزال مغلقا للترميم والتطوير، فاتجهت إلى فرع المقهى الواقع أو الممتد بين شارع عدلي وشارع عبدالخالق ثروت، وليتني لم أفعل ذلك؛ فقد كان في حالة يرثى لها.