DELMON POST LOGO

في ذكرى وفاة صاحب العظمة المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه

بقلم : عبد النبي الشعلة

منذ الذكرى الأولى لوفاة المغفور له صاحب العظمة الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراه، وحتى الآن؛ فإنني أحرص عندما أكون في البحرين على زيارة مقبرة الرفاع في صباح يوم السادس من مارس من كل عام لأضع باقة من الورد على قبره وأقرأ سورة الفاتحة على روحه الطاهرة، وفي البداية التقيت لأكثر من مرة في المكان نفسه بالمرحوم مبارك كانو عندما كان يفعل الشيء ذاته؛ كان مبارك كانو رحمه الله كما هو معروف واحدا من المقربين من الشيخ عيسى، وكان يرافقة دائمًا في أسفاره، وقد كان يبكي وهو يضع الباقة على القبر؛ إنها الرجولة في أنصع معانيها، وإنه الوفاء في أسمى صوره كما يعرفه الرجال الأوفياء.
وقل عني ما تشاء، فإنني مثل كل عام زرت أمس مقبرة “الحنينية” بالرفاع وحملت معي باقة من الورد، وسأبقى متمسكا ولن أتخلى عن المفاخرة بذلك لما أكن لذلك الانسان من مشاعر الحب والولاء والاحترام والتقدير حتى بعد مرور أربعة وعشرين عاما على وفاته، وسأظل على هذا الحال حتى آخر نَفَس وآخر رمق من حياتي؛ لأنني هكذا أيضًا تعلمت معنى الإخلاص ومعنى الوفاء ومعنى العرفان. فرحم الله أمير المكارم والإباء والشجاعة والبساطة والتواضع؛ الأمير الراحل المغفور له صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه؛ الذي على يديه وفي عهده الزاهر نالت البحرين استقلالها، وحافظت على سيادتها وسلامة أراضيها وهويتها العربية، وأصبحت عضوًا فاعلاً في الأسرة الدولية، وحققت نموًا وازدهارًا اقتصاديًا مشهودين.
وفي هذه الأسطر سأتوقف عند تجربة عايشتها في صباي أو في ريعان شبابي، سأتوقف عند واحد من المواقف الإنسانية الكثيرة لذلك الإنسان النبيل، إنها واقعة حقيقية أرويها بكل زهو واعتزاز وليست قصة من نسج الخيال رغم أنها تبدو كذلك.
لقد نبتت مشاعر الحب والتقدير في صميم وجداني للمرحوم الشيخ عيسى بن سلمان بعد أيام من تولي سموه مقاليد الحكم في البلاد في العام 1961 عندما كان عمري 13 عاما، فقد سمعت أن الحاكم الجديد هو في غاية الأريحية والسخاء والكرم، فقررت وأنا في ذلك السن المبكرة أن أكتب رسالة لسموه أطلب فيها منه أن يأمر بترميم منزلنا الآيل للسقوط الكائن في فريج المخارقة، وعرفت أن الحاكم الجديد يعقد في تلك الفترة أكثر من مجلس مفتوح في اليوم الواحد في قصره بالرفاع يستقبل فيه ضيوفه وكبار أفراد الأسرة الحاكمة ووجهاء البلاد وكل من لديه حاجة.
كتبت الرسالة وغادرت المنزل في عصر أحد الأيام (لا أتذكر التاريخ) وأنا محتفظ بها في جيبي، وتوجهت إلى محطة الباصات في سوق المنامة، وانتظرت لفترة ليست بالقصيرة إلى أن نادى سائق أحد الباصات: “الرفاع، الرفاع” فدفعت للسائق 4 آنات أجرة الرحلة ودخلت الباص مع غيري من الركاب، وانتظرنا في داخل الباص لبعض الوقت أيضًا، لكنها بدت لي فترة طويلة جدا وأنا في غاية الوجل والترقب والقلق من التأخير، وبعد أن امتلأ الباص بالركاب تحرك في تلك الرحلة المجهولة العواقب والمصير بالنسبة لي.
غربت الشمس والباص لا يزال يطوي الطريق ببطء ثقيل ويتوقف بين الحين والآخر ليركب أو ينزل أحد الركاب، وأخيرا توقف قرب قصر الحاكم، كانت مساحة واسعة من الأرض الخالية تقع بين الشارع والقصر تتجول وتنبح فيها كلاب السلوقي التي ضاعفت من خوفي ورعبي واضطرابي، وكان الطقس باردا تتخلله نسمات من الرياح الخفيفة.
سيارات قليلة كانت واقفة خارج سور القصر وأخرى في الساحة الداخلية له، وأدركت أنني سعيد الحظ في ذلك اليوم، فالشيخ كان موجودا في القصر عندما وصلت، وعرفت لاحقا أنها جلسة مختصرة قصيرة كان الشيخ يعقدها بعد صلاة المغرب.
دخلت بوابة القصر دون أن يوقفني أحد؛ ففي تلك الأيام الجميلة لم تكن الحراسات مشددة، ولكن عندما وصلت ساحة القصر أوقفني أحد الحراس فقلت له إنني أريد أن أسلم رسالة للشيخ، وإذا بحارسين آخرين ينضمان للإحاطة بي، فتملكني المزيد من الخوف والارتباك والجزع ولم أستطع أن أسيطر على نفسي وأخذت أبكي.
توجه أحد الحراس إلى داخل غرفة مفتوحة تقع في أحد جوانب القصر وعاد ليصطحبني إلى داخلها والدموع ما زالت تذرف من عيني، كانت غرفة مستطيلة أو قاعة صغيرة، عرفت بعد سنوات أنها تسمى “البرزة” أو “المختصر” أو “المجلس الصغير”، كان الشيخ عيسى رحمه الله جالسا في صدارتها، فناداني “ تعال يا ولدي لا تخاف” وأجلسني إلى جانبه، لم أعرف ماذا أقول وكيف أتصرف، لكنني أحسست بالطمأنينة والدفء وأخرجت الرسالة من جيبي وسلمتها له.
وبينما كان يقرأها كان الهدوء مخيمًا على القاعة، وكنت أصارع مزيجًا من أحاسيس الرهبة والفرحة والدهشة والتعجب والانبهار بكل ما هو حولي ومن هم أمامي، أنظر وأتأمل في وجه الشيخ بقسماته الوقورة البشوشة السمحة، واتفحص الوجوه المليئة بالوجاهة والهيبة للرجال الجالسين في المجلس، والملابس النظيفة الزاهية التي كانو يلبسونها، والبشوت بمختلف ألوانها، والغتر بين بيضاء ومطرزة بألوان مختلفة، والعقل السميكة السوداء ما عدا واحدا منها كان أبيض، والشطف المذهبة مثل التي كان يلبسها الشيخ نفسه.
وأنا على تلك الحال من التأمل والانبهار وضع الشيخ يده على كتفي بعد أن قرأ الرسالة وقال “لا تهتم سنبني لك البيت”، وسألني كيف سأعود إلى المنامة، ولما قلت لا أدري، ضحك وضمني إلى جانبه، ونادى الحارس وكلمه بصوت خافت، وأخرج من جيبه عملة ورقية (نوط) بقيمة 50 روبية وأعطاني إياها، (تعادل في قيمتها الشرائية اليوم 500 دينار على أقل تقدير) وأمرني أن أنصرف واتبع الحارس.
حالة الفرح والانبهار وصغر السن جعلتني أنهض من المقعد وأتبع الحارس وأغادر من غير أن أودع الشيخ أو أشكره، وبعد 20 عاما رويت للشيخ عيسى رحمه الله هذه الواقعة وشكرته بكل ما أمكنني من واجب الشكر، ودهشت عندما أدركت أنه يتذكر ذلك المشهد، فالمعروف أن أنجال المرحوم الشيخ سلمان بن حمد طيب الله ثراه ورثوا عنه قوة الذاكرة، وقد عايشت ذلك وشاهدته بأم عيني فيما بعد أيضًا، عندما أصبحت لسنوات طويلة بمعية شقيقه المغفور له الشيخ خليفة بن سلمان طيب الله ثراه الذي كان هو أيضًا يتمتع بذاكرة قوية خارقة حاضرة طول الأوقات وحتى آخر أيام حياته.
نعود إلى ساحة قصر الرفاع وإلى حارس الشيخ عيسى الذي نادى أحد موظفي القصر من السواق وأمره أن يوصلني إلى بيتي في المنامة، ولا أستطيع أن أصف شعوري وأنا راكب تلك السيارة الفارهة بجانب السائق، لم أركب من قبل في حياتي سيارة مثلها، وظللت طيلة الرحلة ممسكا ومتحسسا للعملة الورقية في جيبي، كانت أيضًا أكبر ورقة نقدية امسكها بيدي وأكبر مبلغ أملكه في حياتي في ذلك الوقت، وطيلة تلك الرحلة كان سؤال يطرق بشدة في ذهني؛ اكل هذا حقيقة أم أنا في حلم؟
نزلت من السيارة عندما وقفت أمام باب بيتنا، وبعد ثلاثة أيام طرق الباب المرحوم الحاج حسن أبو إدريس الذي كان أحد وجهاء المنامة وقتها وكان يعمل في ديوان الحاكم منذ عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد رحمه الله وأخبرنا بأن الشيخ عيسى أمر بهدم البيت وبناء بيت جديد بدلا عنه، وبالفعل تم بناء البيت وهو لا يزال قائم حتى الآن في فريج المخارقة.
وبعد هذه التجربة الشخصية المفعمة بالعواطف والأحاسيس فقد مرت السنون وتعاقبت الأيام وصرت أواظب على حضور مجلسه رحمه الله، وصارت تجمعني بسموه لقاءات واجتماعات كثيرة بعد أن أصبحت عضوا بمجلس إدارة غرفة التجارة والصناعة ثم مجلس الشورى، ثم خلال تقلدي المسؤولية الوزارية، وتكررت أمام عيني مواقف ومشاهد ما زالت عالقة في ذاكرتي ووجداني تعكس طيبة ذلك الإنسان وحكمته وتواضعه وكرمه وأريحيته ودماثة خلقه وأصالة معدنه؛ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته؛ وأمد الله في عمر خلفه الصالح مليكنا المعظم حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه ووفقه وسدد خطاه.