DELMON POST LOGO

الجماعة... بين التجديد والتجديف وحرية الرأي والتعبير

بقلم : عبد النبي الشعلة
في دعوته لعباده الصالحين إلى عدم التهاون وعدم القعود عن مواجهة العابثين والمجدفين قال الحق سبحانه وتعالى في سورة النساء: “وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا”.
وبعد، فإننا نوجه تحية إكبار وتقدير إلى كافة المسؤولين والعاملين في الدوائر والوزارات المعنية وفي الأجهزة التنظيمية والرقابية والأمنية والقضائية الذين نهضوا لحماية وانقاذ حرية التعبير والفكر والمعتقد في المجتمع من أيدي العابثين والمارقين، وتحركوا في الآونة الأخيرة وبالطرق القانونية ليضعوا حدا لممارسات وتجاوزات عدد من مسؤولي ما يسمى بجمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، بعد أن بلغ السيل الزبى وتعالت الأصوات المنددة والمناشدة للجم هذه الجماعة التي تمادت في غيها، وتمددت في تجاوزاتها إلى أن طالت بالإساءة والتشكيك والاستهزاء والتجريح صلب معتقدات المسلمين جميعًا ومست أقدس المقدسات التي تجمعهم  وعلى رأسها القرآن الكريم بأطروحات سطحية وأساليب استفزازية؛ مؤذية وجارحة لمشاعر الناس ومعتقداتهم بما يؤدي إلى تهديد السلم والأمن والاستقرار واللحمة الوطنية، وإثارة الضغائن والفتن والانشقاق في المجتمع.
والمعروف أن الجماعة التي أسست جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية كانت قد ظهرت إلى حيز الوجود في البداية في ثمانينات القرن الماضي وعرفوا باسم “جماعة السفارة” وحملوا أفكارًا شاذة غريبة منبثقة من خرافة تواصل واتصال مؤسسها بالإمام المهدي المنتظر الذي عينه سفيرًا له وكلفه بتجديد وإصلاح الدين الإسلامي ورعاية شؤون المسلمين، وقد دخلت هذه الجماعة منذ نشأتها في صراع ومواجهات مع رجال الدين من المكون الشيعي في المجتمع، ثم تواروا عن الواجهة ولكن ظلوا يعملون في السر والخفاء.
وعندما أطلق صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه برنامجه الإصلاحي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي ارتكز على قيم الانفتاح والحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وتضمن في خطط تنفيذه تشجيع إنشاء الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى كدعائم للحياة الديمقراطية المرتقبة، تقدمت الجماعة ذاتها بطلب لتسجيل جمعية خاصة بهم تحت اسم “جمعية التجديد الإسلامي”.
وأمام اعتراض رجال الدين وقطاعات مختلفة أخرى في المجتمع على تسجيل الجمعية لعدة أسباب ومنطلقات أبرزها افتقار مؤسسيها للخبرة والمكانة وللتحصيل العلمي والأكاديمي والفقهي المطلوب، وشذوذ وخطورة طروحاتهم، وعدم كفاءتهم وتأهلهم وأهليتهم العلمية والفكرية والفقهية على القيام بمهمة تجديد الدين الإسلامي الذي يجب أن تضطلع به، عند الحاجة إليه، مؤسسات علمية بحثية فقهية مختصة راسخة يُسند إلى علمائها وفقهائها ومفكريها المعتبرين هذه المهمة.
وحيال منطق هذه الحجج ورجاحتها ووجاهتها وافقت الجماعة على حصر نشاطاتها في المجالات الثقافية والاجتماعية فقط، دون المساس أو الاقتراب من القضايا الدينية، وتنفيذًا لذلك وافقوا على تغيير اسم الجمعية من “جمعية التجديد الإسلامي” إلى “جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية” وعلى هذا الأساس تم تأسيس واشهار الجمعية في العام 2002م.
إلا أن الجماعة لم تحترم أو تلتزم بتعهداتها، وسرعان ما أخلت بالتزاماتها وأخذت تتحدى مشاعر المجتمع وتنتهك الأنظمة والقوانين التي تنص بكل صراحة ووضوح على أنه “يحظر أن تتضمن برامج الجمعيات ما يمس أسس العقيدة الإسلامية أو وحدة الشعب أو ما يثير الفرقة أو الطائفية”، وقامت ثلة من شبابهم المتحمس بالسطو على أفكار عدد من المفكرين الحداثيين العرب والمستشرقين واستنساخها بشكل هجين مرتجل وفي صورة هلوسات فكرية ضحلة وهرطقات وزخرفات لغوية مبهمة، تستهدف تشويه منظومة المعتقدات المستقرة في ضمائر الناس بمختلف أطيافهم، وصارت أطروحات هذه الجماعة وتجلياتها كالسهام المسمومة التي وجهت إلى أفئدة ووجدان المؤمنين وإلى رموزهم الدينية ومعتقداتهم الروحية في ممارسة غير مسؤولة وبعيدة كل البعد عن قيم وقداسة حرية الفكر والتعبير.
وفي الواقع، وعلى الرغم من محاولات الكثيرين فإن الدولة طيلة أكثر من 30 عامًا لم تتدخل وفضلت عدم إقحام نفسها في السجالات الدائرة حول هذا الموضوع بين مختلف دوائر ومكونات المجتمع، إلا أنه بات الآن على أجهزتها المعنية الاستجابة في إطار مسؤولياتها وواجباتها لنداءات وبلاغات الذين طرقوا أبواب العدالة والقضاء طلبًا للإنصاف والحماية، فلا يجوز للدولة أن تحرم المجتمع من ممارسة حقه الدستوري والاستنجاد بالسلطة القضائية لحمايتهم وحماية معتقداتهم مما يتعرضون له من تعد وسخرية وتحقير واستهزاء؛ وهي حالة وصلت إلى حد يستدعي من المجتمع مواجهته سلميا وعن طريق القنوات القانونية الدستورية؛ إذ إن تركه والتغاضي عنه سيؤدي إلى استمرار تفاقمه واستفحاله وانتقاله إلى مرحلة العنف والتصادم.
من ناحية أخرى، فإن من حق كل مجتمع أن يعتز بقيمه ومعتقداته وأن يحميها من الإساءة والتشكيك والاعتداء والتحقير، ومن واجب الدولة أن توفر هذه الحماية التي لا تعتبر ولا تشكل خرقًا أو انتهاكًا لحق حرية الرأي؛ ففي أوروبا، واحة الحريات والديمقراطيات لا يحق لأحد وبقوة القانون أن يعبر عن رأيه بالتشكيك في جريمة الهولوكوست التي ارتكبت بحق اليهود، فالدول الأوروبية سنت القوانين التي تمنع أي فرد من التعبير عن رأية المشكك في هذه الجريمة حماية لمشاعر اليهود، ولا يستطيع أحد أن يقول إن ذلك يشكل انتهاكًا لحق أو حرية التعبير عن الرأي، واليوم في الغرب المتحضر وبشكل عام أصبحت الأفواه مكممة في مقابل ما يجري على صعيد الشذوذ الجنسي المتفشي والزواج المثلي والتحول الجندري والتفكك والتفسخ الأسري وغيرها من الممارسات المرتبطة بهذا الشأن التي أصبحت المجتمعات الغربية تعتبرها من جملة حقوقها التي يجب حمايتها من التهجم والسخرية والاعتراض والتهكم، ولا يستطيع أحد أن يعتبر ذلك حجرًا وانتهاكًا لحرية التعبير عن الرأي في الغرب، وعلى الله التوفيق وهو من وراء القصد.