DELMON POST LOGO

الخروج من هيمنة الدينار البيزنطي والدولار الأميركي

بقلم : عبدالنبي الشعلة
بعد تأسيسها وانطلاقها من مهدها في المدينة المنورة على يد الرسول الأعظم محمد بن عبدالله (عليه أفضل الصلاة والسلام) توسعت الدولة الإسلامية وامتدت، في وقت قياسي، من حدود الصين حتى جبال البرانس شمال الأندلس في قلب أوروبا خلال حكم الدولة الأموية الذي دام من العام 662م إلى 750م، وقد بلغت الدولة الأموية ذروة قوتها في عهد خليفتها الخامس عبدالملك بن مروان، فانتعشت الحركة الاقتصادية في عهده وازدهرت التجارة والتعاملات التجارية بين مختلف أقاليم الدولة، وبينها وبين الدول المجاورة، وقد أصبح العالم في ذلك الوقت ثنائي القطبين؛ قطب الدولة الأموية وقطب الدولة البيزنطية، وكانت أغلب المبادلات التجارية في ذلك الوقت تدور بين أراضي هاتين الدولتين المتنازعتين.
وقد اعتمد الاقتصاد والتجارة على الدينار الذهبي البيزنطي كعملة للتعامل والتبادلات التجارية الذي أصبح وحدة التعامل الرئيسة في سائر أقاليم الدولة الإسلامية وفي معظم أنحاء العالم المعروف آنذاك، كما هو حال الدولار الأميركي اليوم أو حتى عهد قريب جدًا.
وقد كانت المبادلات والمعاملات التجارية في الدولة الإسلامية تتم في عهد النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) بالدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية، واستمر الوضع على هذا الحال، مع تعديلات طفيفة، حتى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان الذي أمر أولًا بأن تكتب عبارة “قل هو الله أحد” على “القراطيس”؛ وهي الأوراق الرسمية المصنوعة في مصر من ورق البردي والتي تكتب عليها الرسائل الرسمية ووثائق الدولة وتتداول كذلك في أسواق الدولة البيزنطية، فاعترض الملك الروماني الإمبراطور جستنيان الثاني على ذلك بشدة وتوترت العلاقات بين الدولتين فيما سمي بـ “أزمة القراطيس”، كما اعترض ملك الروم على الرسائل التي يبعثها له عبدالملك بن مروان والتي تبدأ دائما بعبارة “بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين” إذ إن الملك وجد أن هذه العبارات وفي كلتا الحالتين تناهض وتخدش ما يؤمن به وما تؤمن به الأمة البيزنطية المسيحية، وعندما رفض عبدالملك بن مروان إزالة هذه العبارات أو عدم تصدرها لرسائله هدد الملك الروماني بمحاصرة الدولة الأموية اقتصاديا وعدم توفير الدنانير البيزنطية لها، وهو إجراء إذا نُفذ فإنه سيسبب كارثة اقتصادية للدولة الأموية، فغضب الخليفة لذلك واعتبره ابتزازًا مرفوضًا، وطلب من خالد بن يزيد بن معاوية، وهو عالم كيميائي وأحد أقطاب الحكم الأموي آنذاك المبادرة فورًا بسك الدينار العربي، وخالد بن يزيد هذا هو حفيد مؤسس الدولة الأموية، وكان يلقب بحكيم بني أمية، وقد جاوزته الخلافة فاهتم وتفرغ لطلب العلم واتجه إلى دراسة الكيمياء.
وفي إطار تنفيذ خطة استبدال الدينار البيزنطي بالدينار العربي، وسحب البساط من تحت أقدام الملك الروماني؛ أصدر الخليفة عبدالملك أمرًا بتحريم ومنع دخول الدنانير البيزنطية إلى البلاد الإسلامية، وباشر خالد بن يزيد بسك عملة عربية ذهبية حلت محل الدينار البيزنطي ووضع لأوزانها وأشكالها معايير قياسية، فجعل وزن الدينار 4.25 جرام، وكانت نسبة الذهب فيه نحو 96 %، وهي خطوة في غاية الأهمية والجرأة والإقدام، وأصبح عبدالملك بن مروان على أثرها أول من أوجد النقد القومي العربي للدولة الإسلامية، وتميزت فترة حكمه بأول إجراءات إصلاحية نقدية في تاريخ الإسلام ساهمت في تطوير وتنمية اقتصاد الدولة الإسلامية على كل الأصعدة وفي ترسيخ سيادتها واستقلاليتها وتخلصها من التبعية النقدية للخارج.
لقد ساهم تخلي عبدالملك بن مروان عن الدينار البيزنطي في تراجع قوة ونفوذ الدولة البيزنطية وبالتالي إلى ضعفها وسقوطها في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح في العام 1453م.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فالدولار الأميركي الذي صار العملة الاحتياطية العالمية يواجه اليوم تحديًا لم يسبق له مثيل، وأخذت الكثير من دول العالم تشك في مقدرته على الاستمرار في هذا الوضع المتميز، وتتخوف وتتذمر من استغلال الولايات المتحدة لموقع الدولار وقوته واستخدامه كأداة لتجميد أرصدة الدول التي تختلف معها والأفراد والمؤسسات، وللضغط والابتزاز والحصار الاقتصادي، كما هو حاصل الآن ضمن معارك الحرب الروسية الأوكرانية. ولا يحتاج أحد إلى الكثير من الفطنة والحصافة ليدرك أنه إذا رأيت السكين في رقبة جارك فلا تستبعد أن يأتي دورك.
إننا في هذه الوقفة لسنا من السذاجة بمكان لنقترح أو ندعو أو حتى نشير إلى النظر في إمكان صك وإصدار عملة عربية تقوم بما قام به الدينار الأموي أو ما يقوم به الدولار الأميركي، فالدول العربية أو الإسلامية صارت أشلاء متفرقة مفككة مبعثرة لا تجتمع على كلمة واحدة ناهيك عن عملة واحدة، كما إن عصر هيمنة عملة واحدة على الاقتصاد العالمي آخذ في الانقراض بعد أن تزايد عدد الدول التي تخلت أو أعلنت عن تخليها عن الدولار الأميركي في تعاملاتها التجارية، بما سيفضي إلى تهديد هيمنته وسيطرته التقليدية على المعاملات المالية الدولية والتداولات النفطية وليس القضاء نهائيًا على قوته وسطوته.
إن العالم يشهد اليوم جملة من التفاعلات والتحولات الجيوسياسية والمالية العميقة التي تتجه نحو تغيير قواعد النظام الدولي المتبع والمستقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بما يحتم على الدول العربية الخليجية تحديد دورها وموقعها على خارطة التطورات العالمية المقبلة أو على أقل تقدير اختيار مكان لها في الاقتصاد العالمي ليس كمصدر رئيس للطاقة فقط، ولكن كلاعب أساسي في ساحة الاقتصاد العالمي بالمشاركة والحضور في الجهود الدولية التي يقودها ما أصبح يعرف بـ “محور الشرق الصاعد” التي تهدف إلى الحد من هيمنة الدولار الأميركي وتحكمه وسيطرته وتوفير عملة أخرى أو سلة من العملات تحل تدريجيا محل الدولار أو تتنافس معه.
ان الاصطفاف مع هذا المحور لا يعني مواجهتنا أو تخلينا عن أصدقائنا وحلفائنا التقليديين فليس في ذلك أي تناقض؛ لكنه يتطلب منا لتحقيق الفائدة القصوى إحياء مشروع العملة الخليجية الموحدة الذي تعثر تنفيذه لأسباب معروفة، فالظروف الآن أصبحت مواتية ومشجعة، وليس من العسير إصدار عملة خليجية موحدة مدعومة باقتصادات الخليج القوية يتقدمها الاقتصاد السعودي الشامخ لتقف في مصاف اليوان الصيني والروبل الروسي الآخذين في النمو والتوسع، ويكون قدوتها اليورو الأوروبي.