DELMON POST LOGO

بين مشاريع البنية التحتية للاقتصاد وبرامج البنية الفكرية للمجتمع

بقلم : عبد النبي الشعلة

تولي الدولة مشكورة اهتمامًا بالغًا وتبذل جهودًا مضنية لتشييد المشاريع التنموية ومرافق البنية التحتية على أعلى مستويات الكفاءة والدقة والجودة، ثم تحرص على حسن إدارتها وصيانتها؛ هذه حقيقة لا غبار عليها ولا ذرة من الشك تدور حولها.

وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات الاقتصادية فقد شهد العقد الماضي، على سبيل المثال، إرساء وإنجاز حزمة واسعة متكاملة من مثل هذه المشاريع والمرافق، كان من أبرزها مطار البحرين الدولي الجديد الذي أصبح اليوم جوهرة المطارات الخليجية؛ ليس من حيث الضخامة والاتساع، ولكن من حيث التصميم والتناسق والأداء والتنظيم وانسياب الحركة والذوق الرفيع في توزيع المساحات واختيار الألوان.

وبافتتاح المطار الجديد، فقد اكتملت في جزيرة المحرق منظومة خدمات الإنتاج والتصنيع والشحن والنقل التي شملت ميناء خليفة ومدينة سلمان الصناعية ومحطة الطاقة الكهربائية والشركة العربية لبناء وإصلاح السفن وغيرها من المشاريع والمرافق.

وتواصل الدولة جهودها وخططها لتوسيع وتطوير وتحديث محطات وشبكات إنتاج ونقل الكهرباء والماء في أنحاء البلاد كافة؛ كما أنفقت الدولة وما زالت تنفق بسخاء لمد شبكات المجاري والصرف الصحي، وصيانة الشوارع والطرقات وتوسعتها وتشييد المزيد منها ومد الجسور والمعابر.

وبالقرب من حلبة البحرين الدولية لسباق الفورملا افتتح مركز البحرين الدولي للمعارض الذي يعتبر من بين أكبر وأحدث المراكز الدولية للمعارض في المنطقة، إلى جانب إنجاز جملة من المشاريع العمرانية والتنموية والتوسعية في القطاع الجنوبي من جزيرتنا الجميلة.

ومن المتوقع أن يتم إنجاز شارع المحرق الدائري بنهاية هذا العام، وهذا الشارع يتضمن إنشاء "جسر البسيتين" أو جسر المحرق الرابع، وسيمتد من شارع الحوض الجاف إلى خليج البحرين مسهلًا ومختصرًا المسافة والوقت للوصول إلى مرافق ومنتجعات ومدن أمواج ودلمونيا وديار المحرق.

وهكذا تواصل الدولة، مشكورة أيضًا، دون توقف القيام بواجبها وبذل أقصى جهودها لتخطيط وتنفيذ وتطوير ما تحتاجه البلاد من مرافق ومشاريع البنية التحتية وضمان حسن إدارتها وصيانتها، إلا أن أسس التنمية المستدامة المنشودة، ومقومات نهضة الأمم والشعوب ورفعتها، وتقدم الدول والمجتمعات وازدهارها لا تتحقق بالاكتفاء بتوفير مرافق البنية التحتية المادية وعدم إعطاء القدر نفسه من الاهتمام لمكونات البنية الفكرية والثقافية للمجتمع التي تتشكل من خلال جملة من المسارات والروافد الأدبية والفنية والتي يعتبر وجودها ورعايتها وتدخلها ضروريًا لتعظيم الاستفادة من مكونات البنية التحتية، وهي في ذات الوقت تعمل على الارتقاء بالإنسان وإمكانياته وتفجر طاقاته الإبداعية والإنتاجية.

وفي حين تحظى مشاريع البنية التحتية باهتمام واسع كما ذكرنا، وترصد الدولة لها الموارد والمخصصات المالية اللازمة من مصادر دخلها أو عن طريق الاستدانة؛ وهو إجراء لا يكتنفه العيب أو الخطأ بل هو مطلوب ومحمود أحيانًا، إلا أن برامج البنية الفكرية والثقافية للمجتمع، التي توصف بالبنية الفوقية، وتحت ذريعة عدم توفر المخصصات المالية اللازمة، فإنها لا تلقى الدعم والتشجيع المطلوبين.

ونظرًا لهذا القصور، ومقارنة ببداياتنا الرائدة منذ الربع الأول من القرن الماضي فإن الحراك الفكري والثقافي بمختلف روافده يشهد اليوم ما يمكن وصفه بالتراجع الملحوظ والارتداد الخطير الذي إذا استمرّ فإنه سيهدد قواعد البنية الفكرية والثقافية والهوية الوطنية للمجتمع البحريني، والأمثلة على ذلك كثيرة، نختار من بينها توقف انعقاد معرض البحرين الدولي للكتاب للخمس سنوات الماضية، وكانت البحرين تستضيف هذا المعرض كل عامين بانتظام منذ انطلاقه لأول مرة في العام 1978 والذي يصفه المختصون والمهتمون بأنه كان محطة مهمة تستقطب طيفًا واسعًا من الجمهور والمثقفين من مختلف مناطق البحرين والدول الخليجية المجاورة، وكان يشكل نقلة نوعية على صعيد النشاط الثقافي الذي كانت تشهده مملكة البحرين ويعد تعبيرًا واضحًا لاهتمام الدولة بالأنشطة الثقافية في ذلك الوقت، وكان من المزمع إقامة الدورة 19 منه في شهر فبراير الماضي، إلا أن الجهة الرسمية المختصة أبلغت الجهة المنظمة بتأجيله إلى أجل غير مسمى! بينما تستمر الدول العربية الأخرى بتنظيم معارضها بانتظام، كان آخرها معرض مسقط الدولي للكتاب الذي أنهى نسخته الثامنة والعشرين في مسقط في الثاني من هذا الشهر.

"مجلة البحرين الثقافية" مثال آخر على تراجع أو تقهقر مسارات الحراك الثقافي والفكري في البلاد، فقد كانت تصدر أربعة أعداد ورقية في العام، ثم تقلصت إلى ثلاثة أعداد إلكترونية، وتتجه النية الآن إلى تقليصها إلى عددين فقط في العام؛ وذلك نتيجة لتقليص المخصصات المالية المرصودة لها.

وقد لقي مهرجان البحرين السينمائي في دورته الثالثة التي في شهر أكتوبر الماضي نجاحًا متميزًا، ولم يعرقل هذا النجاح عدم توفر المخصصات المالية الكافية لانعقاده بعد أن تقدمت شركة بيون Beyon، وبنك البحرين الوطني بتوفير الإسناد والدعم المالي المطلوب. إن تجاوب هاتين المؤسستين الوطنيتين الرائدتين يعكس مدى تعاون واهتمام مختلف قطاعات المجتمع بتنمية الروافد الثقافية إدراكًا منها بأهميتها وارتباطها بالتنمية الاقتصادية، كما أن هذه الصيغة من التعاون بين المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص تمثل نموذجًا قابلا للتكرار في مناسبات أخرى؛ إلا أن قصتنا مع المسرح لا تختلف كثيرًا عن قصتنا مع الكتاب والمجلة؛ إذ تعطل زخم الاهتمام بهذا النشاط الثقافي المهم ولم يعد ثمة وجود لاستراتيجية أو رؤية معتمدة أو خطة عمل مدعومة بالمؤسسات والموارد والمحفزات ومعنية بتشجيع وتطوير واحتضان الحركة المسرحية كأحد أهم الروافد الثقافية والفكرية في المجتمع.

إن البنية الثقافية والفكرية بمختلف تجلياتها وروافدها أصبحت توصف بـ "البنية الفوقية" مقارنة بالبنية التحتية المادية، وأصبحت تشكل المظلة الواقية لها، وتعد من أهم حصون "القوة الناعمة" للمجتمعات والدول، فصارت الدول تعطيها أهمية لا تقل عما تعطيه لحصون القوة العسكرية؛ إذ إن إهمال هذه البنية يؤدي إلى حدوث شروخ وثغرات ومساحات ثقافية وفكرية فارغة تتسلل من خلالها الأفكار الهدامة والأيدولوجيات المدمرة.

وعلى الرغم مما ذكرناه، فإن الرؤية الإصلاحية والتنموية لجلالة الملك المعظم، حفظه الله ورعاه، تتفق مع هذه المفاهيم والأهداف، وقد ترجمتها الحكومة الموقرة بقيادة صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس الوزراء، حفظه الله، بتوفير منظومة من المنابر والمرافق التي تشكل منصات لتقدم وانطلاق مسارات البنية الثقافية والفكرية، مثل مركز الشيخ عيسى بن سلمان الثقافي، ومتحف البحرين الوطني الذي يغطي أكثر من 6000 عام من تاريخ البحرين، ومتحف موقع قلعة البحرين، ومركز الفنون، ومسرح البحرين الوطني الذي يعد من أكبر المسارح في العالم العربي، ومسرح الدانة وغيرها من المرافق؛ إلا ان تفعيل هذه المرافق والاستفادة القصوى منها يقع على كاهل المؤسسات الرسمية المعنية.

إضافة إلى ذلك، فإن مسؤولية التصدي لحالة التقهقر أو الجمود الذي تشهده ساحة الحراك الثقافي والفكري والفني في البلاد لا تقع على عاتق الدولة فقط، فالقصور واللوم يطالان بشكل أكبر نخبة المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين البحرينيين الذين استكانوا واستسلموا إلى الأمر الواقع ولم يبحثوا بتجرد عن الأسباب الحقيقية للتراجع والجمود، أو يعملوا على الارتقاء بخطابهم وأسلوب تواصلهم بجمهورهم أو الاستجابة إلى مستوى وعي هذا الجمهور وطموحاته وذوقه وإدراكه، أو أخذ المبادرة بالسعي لصياغة شراكات وطنية تعنى بالنهوض بالحراك الفكري والثقافي والفني.

في ضوء هذه المعطيات بات على الدولة ان تبادر بتحريك المياه الراكدة وتبدأ بتشكيل مجلس وطني للثقافة والفنون والآداب أسوة بدولة الكويت الشقيقة؛ ليكون سندًا وعونًا للمؤسسات والجهات الرسمية المختصة، وليضطلع بمهمة اعداد خارطة طريق تؤدي إلى تعزيز الجهود المبذولة لاستنهاض طاقات المبدعين البحرينيين على جميع روافد الثقافة والفكر والفن.