DELMON POST LOGO

ذكريات وتجليات... والانتخابات القادمة

بقلم : عبد النبي الشعلة

ليس بين يدي وأنا أكتب هذه الأسطر إحصاءات دقيقة وموثقة، لكن التقديرات الموثوقة تشير إلى أن 80 % من البحرينيين على الأقل ولدوا بعد تراخي أو انحسار المد القومي العربي على أثر الهزيمة التي مني بها العرب في العام 1967 وانطلاق تيارات الإسلام السياسي، وبالتحديد ولدوا بعد انبعاث حركة “الصحوة” في المملكة العربية السعودية الشقيقة وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 التي أحدثت اهتزازات عميقة في المنطقة أدت إلى زعزعة استقرارها، ونبش قبور الفتن والنعرات المذهبية التي اقتربت من نسيجنا الاجتماعي وكادت تلامس أسس التآخي ووشائج الترابط التي تجمع بين أطياف ومكونات مجتمعنا؛ مما كان سيؤدي بالنتيجة والضرورة إلى تسرب أحاسيس اليأس والإحباط، والخوف من الآخر والشك فيه إلى نفوس الكثيرين منا، فيصبحون فريسة سهلة للتقاسم والفرز والتفريق والاستقطاب الطائفي والقبلي والمذهبي على حساب الانتماء الوطني، وبفضل إرادة الله سبحانه وتعالى وحكمة قادتنا، وبفضل تمسكنا وتعلقنا بقيمنا ومبادئنا وتراثنا، فقد نجونا وتمكنا من اجتياز ذلك الامتحان العسير بنجاح ولله الحمد والخروج من تلك التجربة بالكثير من الدروس والعبر.
وقد رأيت أن أبدأ هذا المقال بتلك المقدمة؛ لأن هذه النسبة العالية (80 %) من البحرينيين تكوِّن اليوم الشرائح السكانية المستهدفة والمؤهلة للمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية القادمة، وهي شرائح لاشك أنها ستظل فخورة بانتماءاتها الدينية والمذهبية والقبلية، لكنها ستضع الولاء والانتماء الوطني فوق كل اعتبار، وأمام صناديق الاقتراع، فإنها ستجعل الهوية الوطنية تتقدم على أي عنوان آخر، وستنتخب المرشح الأفضل وليس الأقرب لها، وستحافظ على طهارة ونقاء دينها الحنيف ومعتقداتها المذهبية، ولن تسمح لأحد بإقحامها وامتطائها في حومة الصراع والمنافسة على الكراسي والمناصب، ولن تستمع إلى نداءات التفرقة، وستحرص على صون وحماية وحدتها ولحمتها الوطنية المرتكزة على أجيال وقرون من التعايش والتآخي والتسامح والتفهم والعيش المشترك والانصهار الحضاري والثقافي والتراثي، ولعل ذلك ما يفسر هذا الانتشار الواسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الأيام ومع اقتراب موعد الانتخابات لقصيدة بعنوان “أجدادنا… كانوا معًا” كان الأخ العزيز الشاعر الدكتور محمد حسن كمال الدين قد كتبها قبل سنوات، وهي قصيدة قصيرة معبرة جاء فيها:
“ياسادتي..
أجدادنا .. كانوا معًا. أفراحهم .. دموعهم كانوا بها يصورون أجمل المشاعر.. يرسمون “ دلمون “ .. يحتسون الوطن المسكون عشقا .. يحتسون الحب والأقلام والمحابر.
أجدادنا .. كانوا معا .. توهج البحار في أعماقهم.. توهج التربة في أعماقهم. كانوا سبيلًا صارخًا .. للشعر .. والغناء .. والمخاطر.
أجدادنا كانوا معًا .. وحتى في مهب الريح يرسمون روعة المشاعر”.
وفي هذه الظروف وبهذه المناسبة، فإن هذه الأبيات تستنهض فينا روح الأخوة والانصهار التي تحلى بها آباؤنا وأجدادنا، وتثير الكثير من التجليات والذكريات الجميلة لحقائق وأحداث ومشاعر وأحاسيس عاشها جيلنا، جيل من ولدوا قبل العام 1979 وأصبحوا يشكلون اليوم أقل من 20 % من عدد السكان، دعونا نحلق مع هذه التجليات ونستعيد بعضا من تلك الذكريات لنستعين بها وليستعين بها جيل اليوم وأجيال المستقبل في تصديهم للتحديات التي يواجهونها وفي سعيهم؛ للحفاظ على الوحدة واللحمة الوطنية وعلى روح الأخوة وإرث الآباء والأجداد في التعايش والتكامل والانصهار، وهو إرث أصبح الآن أمانة في أعناقنا.
ذكريات ومشاعر لا يمكن أن تفارقنا وستبقى مستقرة في عميق وجداننا، فلم نكن نشعر أن ثمة ما يباعدنا ويفرقنا عن بعضنا البعض، اعتزاز بهويتنا الوطنية، وإيمان وتمسك بديننا، واحترام متبادل لمعتقداتنا.
سمعنا ورأينا كيف كان عرق الآباء والأجداد يمتزج في كفاحهم المشترك لمقاومة ضنك العيش ولتأمين حياة كريمة لهم، فزرعوا الأرض وتسلقوا النخيل واصطادوا الأسماك واستخرجوا اللؤلؤ من قيعان البحار.
لم نكن نسمع كلمات مثل سني وشيعي إلا نادرًا، وعندما نسمعها لم نكن نهتم من هو شيعي ومن هو سني، كانت وستظل شهادة أن لا إله إلا الله تجمعنا.
كنا نسمع مؤذنًا يحث على أداء الصلاة في أوقاتها في أذان الصبح، قائلًا “الصلاة خير من النوم”، ومن منا لا يؤمن بأن الصلاة خير ألف مرة من النوم، ونسمع مؤذنًا آخر ينادي في أذانه “حيَّ على خير العمل”، كنا ننتشي لسماع أصوات المؤذنين وهي تصدح من منارات المساجد، تنادينا كمسلمين للصلاة وتذكرنا بوحدانية الله ووحدة البشر، وكنا ننظر إلى برج الكنيسة المحاذية دون خوف أو وجل، ونرى المقيمين الأجانب من المسيحيين يتجهون إليها لأداء صلواتهم، والهندوس يتوجهون إلى معبدهم الواقع في قلب العاصمة لأداء صلواتهم أيضًا، كنا ومازلنا نؤمن بأن الإله واحد والطرق متعددة.
وفي المناسبات الوطنية والمهرجانات والأعياد، كنا نتوجه لمشاهدة “العرضة”، وهي رقصة شعبية ذات جذور نجدية، وكنا نتفاعل مع حركات وأداء المشاركين فيها ودقات طبولهم ودفوفهم، وأبيات الشعر النبطي التي تُلقى فيها والتي كانت ومازالت تهزنا وتثير فينا الحماسة والنخوة الوطنية، كنا ومازلنا نحس أنها جزء من تراثنا وموروثاتنا، فالإرث الحضاري والثقافي يصهر الشعوب ويشدها ببعضها البعض.
وكنا نشعر بآلام ومعاناة الآباء والأجداد من غواصي اللؤلؤ من خلال فن “الفجري”، وهو من الفنون الغنائية التي تميزت بها البحرين، فتنفذ إلى عميق جوارحنا الإيقاعات والآهات والأنات التي يطلقها “النهامون” بطبقات أصواتهم العالية من أمثال النهام سالم العلان والنهام أحمد بو طبنيه.
أفراح وأعراس الشيعة كانت تحييها فرق غنائية نسائية من السنة بأناشيد وأهازيج من تراث المرويات الشيعية بلا حساسية أو حرج مثل “يا سامع الصوت صل على النبي، أول محمد وابن عمه علي” أو “شيل الله يا بالحسن شيل الله، والشمس ردت لعلي بعد الصلاة”.
كانت ومازالت تطربنا أغاني محمد بن فارس ومحمد زويد وتنشينا أشعار إبراهيم العريض وعبد الرحمن المعاودة، لم يكن يهمنا من منهم شيعي ومن منهم سني، كنا نشرب من عين عذاري ونسبح فيها معًا، وإذا غرق أحد منا فيها هب الجميع لإنقاذه دون السؤال عن انتمائه المذهبي.
كنا نأكل من حلوى شويطر وسمبوسة علوي و”نخي” بشير وآيسكريم نصيف، ونستمتع بطعم حلويات “اللدو” من أيدي الباعة الهندوس، وفي الأسواق دكاكين التجار والباعة متلاصقة ومتداخلة في نسيج اجتماعي جميل، لا أحد يفرق بين التاجر والبائع السني أو الشيعي ولا بين محلات اليهود للصرافة وبيع القماش والعطور والإلكترونيات، أو دكاكين الباعة الهنود أو الإيرانيين “الكراشية” المكتظة بالمواد الغذائية والاستهلاكية، ودكاكين الحرفيين الإحسائيين المتخصصين في حياكة وتطريز البشوت والعبي، وغيرها.
تلك كانت غيضًا من فيض، ثروة زاخرة بالتجليات والذكريات الجميلة التي لاشك أنها ستبقى ماثلة أمام أنظار وضمائر ووجدان الناخبين البحرينيين الذين سيتوجهون لصناديق الاقتراع في شهر نوفمبر المقبل، إن شاء الله.