DELMON POST LOGO

مصائد الجواسيس وحبائل المخابرات الدوليةعرض كتاب "التجنيد الاستخباراتي" (3)

(إن عالم َ الاستخبارات عالم سري يتقبله الناس لأنهم لم يعرفوا واقعَ هَذِهِ الأجهزة ليقارنوا بين النظرة المثالية والواقع المر، وقد تسكت عن هذا الواقع أجهزة المخابرات إن رأت أن ذلك سوف يصب في مصلحتها لترسيخ الصورة والهالة حولها.
في هذه المقالات المقبلة سوف نتطرق الى بعض القصص التجسسية بين الدول او داخل الدولة الواحدة من واقع حقيقي سُجِل في مذكرات هؤلاء لمعرفة خطورة الجاسوس على أمن البلد، ونقل المعلومات للاعداء وحبائل المخابرات في اصطياد ضعاف النفوس، إضافة إلى هذا، كَانَتْ المعلومات التي يِتم الحصول عليها من الَّتجنِيد تساهم في تحصين الجبهة الداخلِية.. وهنا الحلقة الثالثة).
(8)
في العالم الإسلامِي ظهرت القوميات أولا ً مثل القومية التركية والعربية، وكانت ترمز إلى الولاء إلى عرق معين، ثم الوطنية وأصبحت ترمز للولاء للوطن الذي تَّم رسم حدوده باتفاقية سايكس بيكو ومثيلاتها مثل الوطنية السورية والمصرية والعراقية والأردنية...إلخ. لذا فالقومية في عالمنا الإسلَامِي أوسع من الوطنية، ويعودُ وجودُ كليهما بِشَكل أسَاسِي إلى الاستعمار الذي استخدمهما  للعالم الإسلَامِي كأداة غزو فكري وتفكيك دَاخلي لهذا العالم.
لقد قامت بريطانيا (عبر المخابرات) خلال العقد الأول والثاني من القرن العشرين باستغلال القومية العربية في تمزيق الدولة العثمانية التي كَانَ الأتراك على رأسها، بتجنيد الشريف حسين وأولاده الذي خرج على العثمانيين فيما يسمى بالثورة العربية الكبرى.
(9)
يستخدمُ الدين أو الأيديولوجيا أحيانا ً كمدخل مهم للتجنيد، وقد تتضارب رؤى ضباط الاستخبارات في إثبات فَّعالَية هذا الدافع، فمثلًا يرى البعض أن "الدوافع الأيديولوجية هي الأسوأ ؛ لأنه لا يمكنك إثباتها. إذ لا يمكنك إثبات عقيدة الشخص الفعلية، وبإمكان الوضع السياسي أن يتغَّير وبالتالي قد يزول سبب عمله معك"، بينما يرى البعض عكس ذلك ويرون أن أنجع دوافع الَّتجنِيد هي الدوافع الأيديولوجية.
والسبب الَّرئِيسِي لعمل ضابط الاستخبارات البريطاني كيم فيليبي لصالح الاستخبارات السوفيتية هو إيمانه بالشيوعية، فلم يدقق جهاز الاستخبارات السِرِّية البريطاني في تاريخ كيم فيليبي الذي كَانَ منخرطا ً فيما مضى في نشاطات يسارية عَسكَرَّية وكونه متزوجا ً من امرأة  شيوعية ألمانية تُدعى ليتسي فريديمان. ولم تكن مجردَ امرأة شيوعية بل كَانَتْ "عميلة  للـكومنترن في أوروبا منذ فترة طويلة" في نقل الرسائل والتجنيد ً ولعبت دورا  بل كَانَ كيم فيليبي نفسه مندهشا ً من سهولة انضمامه إلى المخابرات، فتراه يقول: "وقد أدهشني سهولة انضمامي، وظهر لي فيما بعد أن التحقيق الوحيد حولي الذي قامت به المنظمة في سجلاتها، أفضى إلى جملة واحدة: لا تسجيلات ضده". ويوضح كيم فيليبي سبب عمالته للاتحاد السوفيتي فيقول:
"إن كارثة حزب العمال عام 1931 أدت بي إلى التفكير جديا في البحث عن رديف لحزب العمال. وهكذا بدأت في تنشيط عملي مع جمعية كمبردج الاشتراكية، وأصبحت أمين صندوقها سنة 1932 -1933 ،وقد أدى بي ذلك إلى الالتقاء مع كثير من التيارات اليسارية المعارضة لحزب العمال، ومنهم الشيوعيون. وازدادت مطالعاتي واهتماماتي بكلاسيكيات الاشتراكية الأوروبية، وازدادت كذلك نقاشاتي داخل الجمعية. كل هذا كَانَ تطورا مضنيا، فتحولي من وجهات النظر الاشتراكية إلى الشيوعية تطلب مني عامين. وفي سنة تخرجي في كمبردج عام 1933 استطعت انتزاع كل الشكوك من قلبي. فخرجت من الجامعة وكلي يقين بأن حياتي يَجِب أن تتكرس من أجل قضية الشيوعية".
(10)
وبسبب عدم التدقيق في الماضي الشخصي للموظفين جَّر إلى اختراقات حساسة لترسانة (وول ويتش الملَكَّية)، وهي أكاديمية عَسكَرِّية بريطانية، وذلك عبرَ مهندس شيوعي قديم يعمل داخلها اسمه بيرسي غليدنغ الذي تَّم ضبطه وهو يتجسس لصالح الاتحاد السوفيتي سنة 1938م. . وقد كَانَ الحزب الشيوعي البريطاني أيضًا حلقة وصل بين جواسيس تابعين له والاتحاد السوفيتي، حَيْثُ كَانَ "هالدين"، العامل في محطة تجارب الغواصات التابعة لسلاح البحرية في هاسلر، والتي كَانَتْ تعمل تجارب تقنيات الغطس العميق، كَانَ يقوم بتزويد المعلومات إلى الحزب الشيوعي البريطاني الذي كَانَ بدوره يقوم بتوصيلها للمخابرات العَسكَرِية الروسية  في لندن".
(11)
وأما الجَاسُوسُ "جورج بليك" فبدأت قصته عندما كَانَ عمره عشر أو أحد عشر عاما ً وسافر إلى أقاربه في الإسكندرية بمصر وهنالك "وقع تحت نفوذ عمه هنري كوريل الذي كَانَ أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري"، وبعد نشوب الحرب العالمَّية الثانية أصبح ضابطَ فريق أو المشغِلَ المسؤول عن عمله التجسسي وكان فعالا ً ضد الألمان، إلى أن أصبح ضابطا ً في الاستخبارات البريطانية الخارجية IM6 ثم أرسل تحت غطاء نائب قنصل إلى كوريا الجنوبية. ومع نشوب الحرب الكورية سنة 1950 تَّم أسره واعتقاله، وتعرض لتقنيات غسل الدماغ من أجل تحويل ولائه. يقول الباحث كيفين أوكونور الذي درس سيرة حياة جورج بليك: "أعتقد أن ضغوط الأسْرِ سرعت تعاطفه  الفطري مع الشيوعية " ولم يلبث طويلًا حتى  َعْرِضَ عليهم العملَ والتعاونَ من أجل أن  يكشف العمليات البريطانية الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي ومجموعة الدول الاشتراكية . وقد بقي جورج بليك وفيا ً على هذا العهد وكان له أثرا مدمِرا في قضية نفق برلين، من حَيْثُ الجهد والوقت اللذان بُذِلا فيه، إذ قام فريق مشترك من الاستخبارات البريطانية والمخابرات الأمريكية المَرْكَزية بحفر نفق تحت القطاع الروسي في برلين، في فبراير 1955 ، ووضع أجهزة تنصت على مركز الاتصالات الرئيسي للقيادة العَسكَرية السوفياتية، وقام موظفو البريد بإنجاز العمليات الـكهربائية في هذا النفق، وقد حصلت الوكالتين على شرائط هائلة تَّم  جمعها من النفق".
ولكن لم يدم النفق طويلًا، فلم تتوقع وكالة الاستخبارات المَرْكَزية أن تنكشف العَمَلِية بهَذِهِ الدرجة من السرعة، فقد استمرت لأقل من سنة عندما تَّم العثور على النفق. فالـكرملين عرف بشأنه منذ البداية، قبل أن يَتِم نبش أولِ كومة من التراب. كشف المخطط الجاسوس السوفياتي المزروع في الاستخبارات البريطانية جورج بليك الذي حول ولاءاته عندما كَانَ أسير حرب في كوريا الشمالية، وأطلع السوفيات على السر منذ أواخر  1953 وبقي النزاع قائما ً حول المعلومات التي سمح الاتحاد السوفيتي أن تنفذ تجاه الدول الغربية والتي كَانَتْ تتجسس من خلال النفق.
..يتبع