DELMON POST LOGO

المنامة على بوابة الذاكرة (4)... حماد وأم أحمد

الكاتب

بقلم : جعفر حسن

انسل المساء يمشط شعر المنامة، ويدهن بيوتها بالسواد، لتصبح كل البيوت أشباحا نسيها النهار، قمر يوزع فضته حتى على البيوت الفقيرة، ويدنوا من الأفق الغربي معلنا تعبه، ليفسح للنهار مكانا ليشاطره الوجود. يبث النهار أنفاسه لتلتقطها أرض المنامة، وتلك الرطوبة التي تغشى كل شيء هي عشقه الدائم لهذه المدينة التي تحدث جدرانها حكايات لا تفهم عن عبق التاريخ.
يستل نفسه من نافذة الوقت، ويهرول ليلتقط دراجته، ويحرك مقودها يمنة ويسرة، بينما يدوس على دواستها التي تستطير بها سلسلة تدور، فتدور معها عجلة تزينها أسياخ فضية تلمع في ضوء الشمس، كأن بها قوس قزح، لا يتوهج إلا مع استعار الطفولة وهي تحلم بالطيران لفرط تسارعها، يقف لحظة ليكلم أحد الصبية يسأل عن بقية الصحب، فيقول له: إنهم مع باقي الشلة يشربون (النامليت) عند دكان حماد، يصحبه على الدرب، ها هو ذات الدكان وحماد يوشك أن يبدأ الحكاية.
قال حماد: دارت السنوات وخاطبتني نفسي في السفر إلى الهند، فقلت في نفسي في المرة السابقة جربت البحر ولم انجح، ولكن في هذه المرة لأحاول الطائرة، وأنتم تعرفون أن المطار في مدينة المحرق، وبه طائرة من طراز (فولكر) ذات مراوح، يسميها أهل البحرين (أم أحمد)، وكذلك هم يفعلون مع معظم الأشياء التي يدهشون منها فينقلون دهشتهم إلى الآخرين عبر التسمية، قال حماد: حتى لا أطيل عليكم، قطعت التذكرة وذهبت إلى المطار، وإذا بمجموعة كبيرة من أهل الحي ذاهبون معي إلى الهند، فاستأنست بوجودهم، رحبت بنا المضيفة الانجليزية وقالت لي: مرحبا بك يا حماد على متن رحلاتنا، إن قبطان الطائرة السيد (جونز) يرحب بك معنا، نظر كل من في الطائرة إلى المضيفة، ولعلهم شعروا بالغيرة من اهتمامها بي، قال حماد: وإذا بالطائرة تدير محركاتها، وتهدر وهي تتسارع على أرض المطار، وفجأة وإذا بنا نعتلى الفضاء، نرتفع ونرتفع، حتى وصلنا إلى حيث لا تصل الطيور، ونظرت وإذا بالغيم تحتنا مباشرة والطائرة تسبح عليه.
قال حماد: سارت الرحلة هادئة لا ينغصها شيء، وكأننا لا نسير أبدا، لولا منظر بحر الغيوم، وهو ينشق أمام صدر الطائرة، استمرت بنا الرحلة ساعات، وجاءت المضيفة بالأكل، وهي تقول: يا حماد إنه أكل خاص من أكل القبطان، وبعد أن أكلنا وشربنا القهوة، دارت المضيفة بالبخور، وجاءت بزجاجات صغيرة مملوءة بدهن العود وأعطتني منها ثلاثا.
بعد وهلة من الزمن اختفت المضيفات من أمامنا، وساد هدوء غريب، فجأة شعرت بشيء من الضيق، وأحسست في صدري بحدوث شيء ماء، وإذا بالمضيفة تتقدم نحوي ووجهها ممتقع متيبس، فقلت لها: تكلمي ما الذي حدث؟ فأشارت إلى بالصمت، وقالت أن كابتن الطائرة يدعوك إلى قمرة القيادة، فما كان منى إلا أن استجيب، وفي القمرة قال لي قائد الطائرة: يا حماد أنقذنا، فقلت له: ماذا حدث؟ فقال وهو يبتلع ريقه: محركات الطائرة قد توقفت، ونحن فوق الغيم، وسألني: ما العمل؟ فقلت له: حاول تشغيلها مرة أخرى، فأدار المفتاح وإذا بالبطارية قد نفدت، فقلت له أليس عندكم بطارية احتياطية؟ فقال لي لا يا حماد.
قلت في نفسي يا لهذه الورطة، ما العمل؟ كيف اصنع؟ ماذا افعل؟ وظللت أفكر، لو تبدد الغيم لسقطت الطائرة وهلك كل من فيها، وأنا انظر إلى الناس وهم جلوس في مقاعدهم، وفجأة التمعت في رأسي فكرة، فقلت لهم أعطوني غتركم (شماغاتكم)، وأخذتها على الفور، وربطت بعضها ببعض حتى صنعت منها حبلا طويلا، فتحت باب الطائرة وإذا بمنظر الغيم مهيب، وهو يتحرك مثل الموج، نزلت من الطائرة، وتفاجأت حين نزلت في الغيم وإذا به يصل إلى صدري، أخذت الحبل ومررته على الجناحين، وجعلته يمر من تحت الطائرة وأنا اغطس واخرج من الغيم، حتى ربطت الطائرة بالحبل المصنوع من الألبسة، وعقدته عقدة لا يمكن لها أن تنفك، فيا روح ما بعدك روح، وقلت للمسافرين: هيا انزلوا لنجر الطائرة، نزلوا وكان الخوف باد على وجوههم، ولولا أنهم رأوني أغيب واطلع وأتحرك في الغيم لما تجرءوا على النزول جميعا، وتعاونا حتى جررناها، وبينما نحن نجرها أشرت إلى الطيار أن حاول، فحاول مرة ومرة حتى اشتغلت محركاتها وركبنا، فرح الكابتن (جونز) وكل المضيفات، وشكروني على مساعدتهم، وأتممنا الرحلة بالسلامة.
غمرت عينا عباس الدموع، لكثرة ما عربد الضحك بجسده الذي بدأ يهتز ويتمايل، وهو يحاول أن يكتم ما به، وكلما حاول ازدادت فلتات ضحكاته علوا، جاهد عباس أن يكتم ضحكه، إلا أن بعض الصبية الأشقياء استلقوا على أقفيتهم وراحوا يضحكون، إنثال الضحك حتى عنان السماء، والمساء يبث أول نجماته، وقد تسللن كما تسلل الصبية سراعا إلى بيوتهم قبل تطاول أنفاس الليل.