DELMON POST LOGO

بيان صادر عن جمعية التجديد الثقافية في البحرين حول الجدل الدائر عن مشروعها الثقافي

اصدرت جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية بيان حول الجدل الدائر عن مشروعها الفكري فيما يلي نص البيان :
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)
تدرك جمعية التجديد الثقافية أنّ هناك جدلاً كبيراً يدور حالياً في الأوساط الدينية والوطنية والفكرية والاجتماعية في مملكة البحرين وخارجها حول البحوث والبرامج التي أطلقتها الجمعية في الآونة الأخيرة، وقد تنوّعت ردود الفعل من حيث مضمونها الفكري والشعوري، وتفاوتت في الموقف فمنها من أبدى الاهتمام الكبير بالتعرف على المشروع وفهمه والتفاعل معه بمنهجية علمية في القبول والرفض، ومنها من تسرّع في إبداء الرأي وبالغ في الرفض والهجوم والإساءة حتّى قبل أن يدرس، بل قبل أن يشاهد أو يقرأ مشروعنا بشكل منهجي لكي تتبيّن له صحّة الأفكار أو خطأها بالدليل والبرهان، وقد سارع بعضهم لإشهار سيف القضاء بعد أن امتشق يوما سيف فتاوى  القطيعة والحجر والوصاية في قضايا جوهرها فكري إمعاناً في مصادرة حريتنا وتكميم أفواهنا وهم ينتسبون لمدرسة تدعي الميل مع الدليل حيثما مال.
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ جمعية التجديد حين أطلقت برامجها فهي لا تهدف إلى الإساءة لأي أحد وتأسف إن حدث وكان نقدها للذات مثّل استثارة لمشاعر أحد، بل ترى أنّ ما تفعله من فحص وتدقيق في الموروث الديني هو إنقاذٌ للدين وللأمة من المصير الذي انتهت إليه أوروبا في عصور الظلام، فالمسلمون اليوم ينسجون على منوال أوروبا القديمة ويسيرون مسارها حذو النعل بالنعل، فالتراث الديني المظلم الذي انقلبت عليه أوروبا كان لا يحترم العقل ولا يعترف بالعلم والمعرفة ويكرس الاستبداد الديني وينشر الكراهية والعنف والقهر ويعزّز وصاية الكهنة والكنيسة على عقول وضمائر الناس، ولأنه كذلك انقلب عليه الناس وأخرجوه من حياتهم حتى آل للتقوقع في كنيسة يزورها القليلُ مرّة في الأسبوع.
فالناس – بطبيعتها الفطرية – تقدّس جوهر الأديان الأصيل ولا تتمرّد عليها لأنّها منابع للرحمة والمحبة والكرامة الإنسانية والحرية، ولكنها قطعا تنقلب على النسخ المصطنعة منها لأنها تزدري عقول الناس وتستبد بهم وتسلبهم أعز ما وهبهم الله وهو كرامتهم، فانظر حولك اليوم ترى مؤشرات خطيرة لبدايات تمرّد الأجيال الجديدة، تجدها في ظواهر الإلحاد والعزوف عن الدين واللامبالاة الدينية، فيما يتعاطى المتطرفون سم أفكار العنف والخرافة ويحاربون العلم والمعرفة، وتجد الاستبداد الديني متمثلا في كهنوت يريد الوصاية على عقول الناس وضمائرها.
فهل نريد أن تنفصل أجيالنا القادمة عن دينها كما فعلت الشعوب الأوروبية؟
فكلّ من يدقق قليلاً في مضامين كتاب الله المجيد وقصص سِيَر الأنبياء (ع) لا سيّما نبي الرحمة (ص) وأهل بيته (ع) يدرك أنّ ما وصلنا اليوم من موروث ديني ليس هو تركة السماء فينا ولا إرث خاتم النبيين محمد (ص) الذي أرسله الله بدين الرحمة والمحبة والأخوة واحترام كرامة البشر ليسير في أمّته وفي الأمم الأخرى مسار الرحمة والكرامة.
نحن نتفهّم أن تكون على بحوثنا وبرامجنا ردود أفعال متفاوتة، فقد يراها البعض أنّها مبادرة ضرورية لتنقية الموروث من طفيليات مدسوسة وعوالق مدمّرة، وقد يرفضها آخرون لأنّها – في اعتقادهم – لا تقر مسلماتهم الفكرية أو ثوابتهم العقائدية، وقد يتطرّف في رفضها البعض لأنّها تنزع أسباب منطقة وشرعنة الوصاية على عقول وضمائر الناس، وبالرغم من حساسيتها المفرطة إلا أنّها ضرورة وهناك من علماء الأمة ومفكريها المخلصين مَن يسير في حقل ألغامها بحذر ويقارب مهمة تنقية الموروث بحساسية، ولكنه أيضا لم يسلم وقد صبوا عليه حمم الويلات ودعوا عليه بالويل والثبور بردود أفعال عنيفة ومتشنجة، فهل يتوقف النقد ويترك أم يتواصل تنزيها للأفهام من وضع ودسائس الكذبة؟!
لذلك نحن نناشد كل من يطالب جمعية التجديد أو غيرها من العلماء والمفكرين أن يمتنعوا عن تنقية الموروث أن يبادر بسؤال نفسه الأسئلة المصيرية التي تواجه أمتنا اليوم أوّلاً وأن يتصدّى للجواب عليها بنفسه ثانياً، ومنها:
1) ما هو مآل الأمة المنقسمة على نفسها، وكيف يبدو شكل مصيرها القادم، إذا استمر تشرذمها وتفتتها إلى فرق ومذاهب وطوائف تكفّر بعضها البعض وتحارب بعضها البعض؟
2) كيف نحمي أمتنا الإسلامية من المصير المظلم الذي عانت منه أوروبا في عصور الجهل والظلام والتخلف وسطوة الكنيسة ومحاكم التفتيش؟
3) كيف تتوحّد الأمّة وتنهض من جديد وهي محمّلة بموروث ديني ثقيل غالبيته من صناعة الرجال والدول والساسة والمغرضين، والقصّاصين، والإسرائيليات، وأرباب المذاهب، والطوائف؟
4) كيف نحرّر دين الكرامة والرحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) من أغلال المهانة والقسوة على العالمين؟
5) كيف نستعيد جوهر الإسلام من جديد.. دين محبة لا دين كراهية.. دين أخوة لا دين فرقة.. دين سلام لا دين عنف وحرب.. دين عقل وتعقّل لا دين دجل وخرافة.. دين علم ومعرفة لا دين جهل وتخلف.. دين حرية واستقلالية لا دين إكراه ووصاية.. دين بناء وإعمار لا دين هدم ودمار.. دين نهضة وحضارة لا دين ظلمة وخراب؟
6) كيف نعالج أثر بصمات الرجال في الدين (من الساسة والوضّاعين وممتهني الفرق والمذاهب) ليصحّح الدين وجهة بوصلته من وجهتها الشيطانية المفرِّقة إلى وجهتها الرحمانية الموحِّدة؟
7) كيف نتحمّل مسؤولياتنا اليوم، وما هو دور أبناء الأمة المخلصين من العلماء والباحثين والمفكرين والمثقفين والأكاديميين، ودور المؤسسات الفكرية ومراكز البحث العلمي والثقافي في تنقية هذا الموروث من كلّ ما علق به؟ هل نقف على التل ونشاهد الأمة تنتحر حضارياً ولا نحرّك ساكنا بحجة أنّ البعض لا يحتمل مقاربة مسلماته؟ أم نقتحم المشهد بشجاعة ومسؤولية رحمة بأمتنا ومصيرها ونتحمل التبعات وندفع الأثمان؟
انطلاقاً من هذه التساؤلات الجوهرية، ولشعور أعضاء جمعية التجديد بهذه المسؤولية الكبيرة، أطلقنا مجموعة من البرامج البحثية المعنية بمحاكمة مسلماتنا الفكرية ودراسة الموروث الديني ونقده لتنقية التراث من التزوير والتحريف والعبث والدسّ والكذب والافتراء والوضع، ومساءلة كلّ ما يؤسس للفرقة والكراهية بين أبناء الأمة الواحدة ويكرّس الدجل والجهل والخرافة والتكفير ويدعو للقتل والاستباحة والإساءة على الهوية الدينية والمذهبية، والتديّن باستعداء الآخرين وازدراء أبناء الطوائف والمذاهب والأديان.
ونحن إذ نتفهّم كلّ أنواع ردود الفعل الهادئة (أو الحادة) لأنّها تأتي في سياقها الطبيعي مع أي عملية بحث عميقة تتناول الموروث الديني أو الفكري الذي دأب الناس على تصديقه والإيمان به دون تمحيص وفحص، فإنّنا نناشد إخوتنا في الدين أو الإنسانية عدم التسرّع في الحكم على برامجنا وندعوهم للهدوء والتأنّي وقراءة مخرجاتنا بشكل علمي ومنهجي بعيدا عن الشحن العاطفي والغرائزي وذلك لاستجلاء الصورة كاملة وبشكلها العلمي الصحيح. وتفهّمنا لردود الأفعال المتفاوتة واحترامنا لمشاعر الجميع لا يمنعنا حقّنا في الالتزام بمبادئ وثوابت لا يستطيع أن يمنعها إنسان عن إنسان آخر، نختصرها في ست:
أوّلاً: نحترم العقائد والشخوص، وميدان اشتغالنا هو الأفكار – جمعية التجديد الثقافية تحترم عقائد كلّ الناس وتجلّ العلماء والفقهاء وتحترم جميع المفكرين والباحثين والرواة والمفسرين، ولكنّها تحتفظ بحقّها الطبيعي الراسخ والمكفول لها في مناقشة كلّ الأفكار والآراء والتفسيرات والمنظورات والتصورات والفتاوى مهما اعتبرها البعض أنّها مقدّسة أو جعلها فوق النقد والمساءلة.
المقدّس في الدين اثنان لا ثالث لهما وفق منظور جمعية التجديد؛ الأوّل هو النصّ القرآني العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)، والثاني هو السنُّة التي توافق في مضمونها القرآن الكريم ولا تخالفه أو تعارضه أو تناقضه. أمّا كلّ ما هو دون ذلك من آراء وتفاسير واجتهادات ومرويّات مشكوكة فهي جميعاً أفكار وأقوال رجال قد يصيبون وقد يخطئون، وقد يقتربون من الحق والحقيقة وقد يبتعدون، خصوصاً أنّ الرجال أبناء بيئتهم وظروفهم ومذاهبهم ومشايخ طوائفهم ومراجعهم الخاصة ومدارس اجتهادهم.  
ثانياً: حقّنا في حريّة المعتقد – حريّة المعتقد منحة ربانية لكلّ إنسان، فلا يمنحها أحد لأحد، ولا يتفضّل بها أحد على أحد، فهي من أسس وثوابت الدين القيّم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ.. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)، وهي مكفولة في جميع العهود والمواثيق الدولية، وتحترمها دساتير الدول وقوانينها المرعية.
فلا حجر على حرية العقيدة لأنّه أمر أبرمته السماء وخضعت له جميع أمم الأرض، وعلى الجميع أن يتّعظ بالأمم السالفة والحضارات البائدة، وقد شهد العالم كلّه آثار سلب حرية المعتقد في عصور الظلام الأوروبية حيث بادت الممالك وقامت مكانها دول الحريات.
ثالثاً: ننزه الجميع من التوسل بأسلوب محاكم التفتيش البالي – فهي سيئة الصيت، ثبت فشلها، فهدفها كان الحفاظ على نفوذ الكهنوت وممارسة الوصاية الفكرية على عقول الناس والوصاية الإيمانية على ضمائرهم، وآخر همّها استقامة الناس وصلاح الدين وسلام المجتمع. فما امتلأ قلب إنسان بدينٍ قط بوصاية وإكراه، بل بمحبة وحرية وعدل وسلام.
فمن حقنا وواجبنا أن نتمتع بحريتنا الفكرية التي جعلها الله للإنسان وبذات المبدأ يستطيع الآخر قبول أو رفض أو الاعتراض أو نقد ما نطرح، فقد نزلت بترسيخ الحرية الكتب السماوية وسطرتها شرائع السماء، فاستمدت منها القوانين والأعراف الإنسانية صبغتها، فقد ولّت عصور الظلام وأزمنة الوصايات. ونحمد الله أنّ بلدنا ذو طابعٍ مدني ولا يوجد في تكوينه مؤسسات كهنوتية تحجر على الناس حرية التفكير والاعتقاد.
رابعاً: حقّنا في البحث العلمي – وفي تشكيل رؤيتنا الخاصة في كلّ شيء (في تدبّرنا وفهمنا للقرآن الكريم.. في فهمنا للأحاديث والمرويات.. في قراءتنا للتاريخ الإنساني.. وفي منظورنا لكلّ المفاهيم الدينية والفكرية والاجتماعية). حقّنا في البحث والدراسة والاستنتاج كفلته لنا كلّ الشرائع السماوية وكلّ المواثيق الدولية والقوانين الوطنية، وسنتابع عملية البحث والدراسة دون أن نسمح لأيّ جهة دينية كانت أن تمارس على عقولنا وضمائرنا أيّ إكراه أو وصاية.
خامسا: حق النقد - فمن حقّ الجميع تفنيد ما نقول حرفا بحرف، وكلمة بكلمة، وفكرة بفكرة ومن حقّ الناس أن تضرب بآرائنا عرض الحائط إن تبيّن لها خطأها وبطلانها بالدليل والبرهان. فالرسول (ص) لم يكن له مطلب أعز من الحرية، وهو يجول في مكة ويردد "خلوا بيني وبين الناس"، فمن حقّ الناس أن تسمع من الجميع وأن تحاكم جميع الأفكار وتصوغ رؤيتها الخاصة بها وتصنع إيمانها وقناعاتها لوحدها دون وصاية أو إكراه من أحد.
سادسًا: نحترم الدستور ونلتزم بالقانون – جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية مؤسسة مرخصة رسمياً وفق قانون الجمعيات وهي تؤكّد احترامها الكامل لدستور مملكة البحرين الذي ينص ويؤكّد على حرية الإنسان في تشكيل معتقداته والتعبير عنها دون وصاية دينية أو فكرية من أي أحد، ونعلن كذلك التزامنا الدقيق بكلّ القوانين المرعية في البلاد خصوصاً المعنية بإدارة الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، فنحن أبناء هذه الأمة التي نحلم بنهضتها وقيامتها يوما، وأبناء هذا الوطن الذي يفخر باحتضانه مشاريع فكرية وثقافية كبيرة تضعه في مقدّمة ركب المساهمين في العطاء الفكري والحضاري في العالم الإسلامي.
وأخيراً، إن الأمم إذا أرادت النهوض وتسنم الريادة تخلق بيئة تحتضن الإبداع بفتح آفاق الحريات – الفكر والقول والعمل – وتشجع التدافع الفكري لأن الجدل آية تسامح مكونات المجتمع وتقبّلهم للرأي المختلف، أما التبديع والتضليل والتكفير فهي آيات الانغلاق التي تؤدي لسيادة محاكم التفتيش واستحضار روحها البائدة وهي لا شك تقوض فرص نهضة الأوطان والأمم وما أوروبا عصر الظلمات عنّا ببعيد، حيث ساد كهنة الجهل والاستبداد فحاصروا أصحاب العقول ظانين أنهم يحافظون على عقائد الناس وحقائق الإيمان، وقد انجلى الصبح لذي عينين بعد كل هذه القرون فأسفر عن نهضة شاملة في كلّ مجالات الحياة، مع تسجيل تحفظاتنا على ما آل إليه حال الإيمان والأخلاق لديهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحّد أمّتنا، وأن ينهض بها ويعليها في سلّم الحضارة، وأن يفشي المحبة والسلام بين أبنائها، وأن يعينها على استعادة دورها الريادي بين الأمم.. إنه سميع مجيب..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..